في المقدمة التي لا تزيد كلماتها كثيرا عن صفحة واحدة أقحمَنا خورخي بورخيس في واحدة من متاهاته. خرجت من قراءتي لها ثلاث مرات أو أربع مرات غير عارف تماما لمن هو النصّ الذي كتبت له تلك المقدمة، وما هو دور لاين (مترجم ألف ليلة وليلة) في العثور عليه. ثم من هو دايفيد برودي المثبت اسمه في أسفل المقدمة.
هذا هو خورخي بورخيس، المصرّ دائما على تضييعنا. هو يقول أشياء كثيرة على الجوانب، تاركا لذاكرته ومخيّلته أن يتطرّفا في التدخّل. وقد ذكر شيئا عن ذلك في إحدى القصص التي يضمها الكتاب*، عازيا لتقدمه في العمر جنوحه إلى الاستطراد. كما أنه، في ذاك العدد القليل من السطور، ذكر أشياء عن قار مفترض «قد ألهمته أعاجيب حكايات شهرزاد بدرجة أقلّ من عادات الإسلام»، إلخ.
أما حكايته عن الرجال- القردة، وقد ارتأى أن يطلق عليهم اسم الياهوس، فتتصادم الأعاجيب فيها بسعيه إلى التفكير بنظام مفهوم لعيش تلك المخلوقات. ولكي يبدو تدخّله بعيش هؤلاء مقتصرا على قراءته لنصّ كتبه سواه، بل إنه لقي صعوبة في فهمه بسبب اللغة الخشنة التي يتداول بها هؤلاء، اكتفى بتلك المقدمة القصيرة. بدأ النص بالكلام عن لغة الياهوس، المفتقرة إلى الصوائت، كما يمكن أن تكون لغات البدائيين. بعض هؤلاء، الرجال – القردة لهم أسماء، وليس جميعهم، ولمناداة بعضهم بعضا يلجأون إلى رمي المنادى منهم بالطين، «كذلك رأيت مِن الياهوس مَن إذا نادوا صديقا، كانوا ينطرحون أرضا، ويتمرّغون في التراب».
أما عدد هؤلاء، فلا يزيد عن السبعمئة، هذا إذا ضُمَت إليهم جماعة النر (nr كما كُتبت بالنص الإنكليزي للدلالة على افتقار لغتهم للصوائت، كما ذُكر أعلاه). وهذا العدد (700) تخميني، حسبما جاء في النص، إذ تُقلّصه حمّى المستنقعات والغارات المتواصلة. «أما غذاؤهم فالثمار والجذور والزواحف، ويشربون حليب القطط والخفافيش، ويصطادون السمك باليد، وهم يتوارون أثناء مضغهم للطعام، أو يغمضون عيونهم».
ويقول كاتب النصّ أنه وبّخهم حين علم أنهم يأكلون لحم سحرتهم وملوكهم نيّئا. وهم أجابوا بأن جعلوا يتحسّسون أفواههم وبطونهم ليفهموه أن الموتى هم غذاء كذلك، وأنهم يأكلون قادتهم ليتمثّلوا فضائلهم. أما الملكة، التي لا يسمح لها أن ترى ملِكَها، فتفضّلت باستقبالي: «كانت باسمة، شابة ووسيمة، بالقدر الذي يسمح به عرقها»، لكنه رفض عرضها لأسباب ذكرت في النصّ عن حبّ الياهوس للتمرغ بالأوساخ والسرور الذي يمنحه لهم أكل اللحم النيّئ والأشياء الزنخة والنتنة. «نظرتْ إليّ وتشمّمتني، ولمستني، وصمّمت أن تمنحني ذاتها، على مرأى من جميع الوصيفات». لكنه رفض هذا الشرف الذي لا تمنحه الملكة إلا «للسحرة وقنّاصي العبيد، الذين هم مسلمون عادة». هناك الملك، وهناك الملكة، والسحرة الأربعة. هؤلاء الستة هم عليةُ القوم إذن، أو طبقتهم المنفصلة عن قاعدتها. أما اكتفاء الملك والملكة من السحرة بأربعة فقط فيرجع على الأرجح إلى أن الرقم أربعة هو آخر ما يمكن أن يبلغه علم حسابهم. واحد، اثنان، ثلاثة أربعة… وكثير، أي أن اللانهائي عندهم يبدأ مبهما. ورغم جهلهم هكذا بالحساب، إلا أن العرب الذين يتاجرون معهم لا يغشّونهم.
لا يخامر قارئ النص، العارف ببورخيس وأدبه، أن يُرجع تأليف النصّ، وليس فقط ترجمته إلى القشتالية ونشره من ثمّ في كتابه، إلى بورخيس نفسه. من غيره قد يذهب بافتتانه بكل ما هو غريب وغير عادي إلى حدّ أن يكون، بشخصه، مقيما بين هؤلاء القوم، وأن يمثل بين يدي ملكتهم مرغوبا ومشتهى وليس زائرا فقط. كأنه هو الكاتب المؤلّف، أو إن لم يكن الحال كذلك يبدو كما لو أن النص ذاك كتب له لكي يستفيض هو في نقل عجائب هؤلاء القوم وافتتانه بها. لقد سبق أن وقع كاتب هذه السطور بالتساؤل ذاته عند استشهاد الفيلسوف المعاصر ميشال فوكو بنص كان قرأه لبورخيس عن أنواع الحيوانات وفصائلها. كان هذا الأخير (بورخيس) قد قال إنه قرأه في دائرة معارف صينية وهاله، أو فتنه، أن تتعدّد هذه والفصائل تبعا لأنساق تفكير وتخيّل وتثقف مختلفة المصادر، كما حين يجمع إحداها باللبونات والأخرى بأنها تضرط وتركل من يقترب منها.
يفتننا بورخس، نحن قرّاءه، بالعجيب الذي ينقله إلينا كأنه حصل فعلا، أو كأنه موجود فعلا، وأنه حقيقي. وهو يتنصّل في الوقت نفسه من ردّ ما يرويه إليه وحده. هو يروي عن آخرين، عن أشخاص أبلغوه، أو قالوا له، أو قرأ في مخطوط كان وقع في يد أحدهم… هكذا هي القصص الباقية الأخرى في الكتاب: أسماء… أسماء.. أسماء لا يتوقّف ذكرها وتعدادها، تروي لبورخيس ما يعود يرويه لنا على طريقته ومن عقله.
النص أعلاه، المعنون بـ«تقرير برودي» نشر في مقدمة الكتاب الثاني من الأعمال القصصية لخورخي لويس بورخيس، وهو غير متضمّن بالعنوانين العريضين للقصص التي نشرت في «كتاب الرمل» و«ذاكرة شكسبير». الكتاب الثاني هذا، كما الكتاب الأول، نقله إلى العربية مزوار الإدريسي وصدر عن «منشورات الجمل» في 190 صفحة سنة 2023.
كاتب لبناني