قبل شهرين ونيّف، قام الرئيس التونسي قيس سعيّد، مدعوماً من قِبَل الأجهزة المسلحة، بتنفيذ انقلابه على الدستور التونسي والمؤسسة البرلمانية الناتجة عن انتخابات حرّة لم يشكك أحد بشفافيتها، مهما قيل من جهة أخرى عن الأزمة السياسية المتمثلة بغياب قوة تثق غالبية الشعب التونسي بتصميمها وقدرتها على التصدّي لمشاكل البلاد الاجتماعية والاقتصادية. وكما هو معهود في التاريخ، فإن الفراغ السياسي مقروناً بالسخط الشعبي المتعاظم يعبّد الطريق أمام الشعوذة الديماغوجية، وهو سيناريو مألوف أفضى في بلدان شتّى إلى صعود نجم «مخلّص» ما لبث أن فرض نوعاً من أنواع الحكم السلطوي وفق نموذج يتراوح بين ما أطلِق عليه اسم القيصرية أو البونابرتية وما عُرف بتسمية الفاشية. والحال أن ظاهرة قيس سعيّد منذ بدايتها، أي منذ ولوجه حلبة الانتخابات الرئاسية قبل سنتين، لا تعدو كونها نتاجاً ليأس الشعب التونسي الذي دفع قسماً كبيراً منه إلى التنفيس عن سخطه بالتصويت لرجل ظهر فجأة من خارج المنظومة الحزبية وادّعى التعبير عن إرادة الشعب الخالصة.
وعلى خلفية تصاعد حدّة الأزمة الاجتماعية والسياسية، ما لبث سعيّد أن منح نفسه كافة السلطات بما أدّى إلى تحويل الحكم التونسي إلى حكم أوتوقراطي، أي حكم مبني على سلطة فرد. وقد توهّم قسم عظيم من الشعب التونسي، يُرجَّح أنه يشكل الأغلبية، فصفّق وهلّل للزعيم ولانقلابه وفق السيناريو التاريخي المعهود. بيد أن شرطاً أساسياً من شروط تحقيق ذلك السيناريو كان دوماً تقاعس قوى المجتمع المدني عن القيام بدور طلائع الشعب في السهر على الديمقراطية، ناهيك من قيامها بما هو أخطر بعد، ألا وهو سدّ الفراغ السياسي بخوضها المعركة من أجل حكم يعبّر عن تطلعات الشعب التقدمية.
بكلام آخر فلو قامت منظمات المجتمع المدني التونسي التقدمية وفي طليعتها أقواها على الإطلاق، «الاتحاد العام التونسي للشغل» لو قامت بواجبها في التقدّم لسدّ الفراغ السياسي إنقاذاً للبلاد، لما بلغت تونس ذاك الحضيض الذي جعل غالبية أهلها تنتظر من فرد «منقذ» مشعوذ أن يخرجها من الأزمة. عوض القيام بذلك الواجب، رأينا القوى المذكورة، اتحاد الشغل أولاً وفي ركابه «الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات» و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» وسواهما من الجمعيات التقدّمية، رأينا جملة هذه القوى تعزّز الأوهام الشعبية بانضمامها إلى المرحّبين بالانقلاب والمبرّرين له. وكان ما تحتّم أن يكون، فلم يمض شهران على الانقلاب حتى انجلى ما حذّر منه منذ البداية الكثيرون، إذ كشف سعيّد عن تصميمه على إدامة حكمه الأوتوقراطي بتفصيل دستور جديد على قياسه.
لو قامت منظمات المجتمع المدني التونسي التقدمية وفي طليعتها أقواها على الإطلاق، «الاتحاد العام التونسي للشغل» لو قامت بواجبها في التقدّم لسدّ الفراغ السياسي إنقاذاً للبلاد
فصعدت صرخات منظمات المجتمع المدني الديمقراطية والتقدمية احتجاجاً على نية سعيّد السير على خطى زين العابدين بن علي. فقد أصدر اتحاد الشغل يوم الجمعة الماضي بياناً، حمل توقيع أمينه العام، «ينبّه من مخاطر تجميع السلطات في يد رئيس الدولة» و«يرفض احتكار رئيس الجمهورية التعديل ويعتبر ذلك خطراً على الديمقراطية» و«يرفض مطلقاً المساس بمكتسبات المجتمع التونسي» و«يجدّد التنبيه إلى تفاقم الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في ظلّ غياب الإرادة والتصوّرات والبرامج». كما أصدرت ست جمعيات أخرى من منظمات المجتمع المدني، هي «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين» و«جمعية القضاة التونسيين» و«جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية» و«المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» علاوة على الجمعيتين المذكورتين أعلاه، أصدرت يوم الإثنين بياناً دقّت فيه ناقوس الخطر خوفاً على الديمقراطية والحقوق والحريات.
ومن المؤسف أن أياً من هذه المنظمات لم يكن لديها من النزاهة الفكرية والشجاعة الأخلاقية ما يلزم كي تقرّ بالخطأ العظيم الذي ارتكبته بترحيبها بانقلاب «25 جويلية 2021» (25/8 بالتسمية التونسية) ومساهمتها في إيهام الشعب بأنه طريق الخلاص. بل أصرّت، سواء في بيان اتحاد الشغل أو في بيان الجمعيات، على رفع اللوم عنها بادّعاء صواب موقفها الأول. فقد جاء في مطلع بيان الأمين العام للاتحاد أنه «يؤكد تمسّكه بما تضمّنته بيانات الاتحاد عقب 25 جويلية ويعتبر ما حدث فرصة تاريخية للقطع مع عشرية غلب عليها الفشل والتعثّر وسادتها الفوضى والفساد وانتشر فيها الإرهاب، إلاّ أنّه يرفض محاولة اعتماد فشل هذه العشرية ذريعة للمقايضة بين الحرية واحتكار السلطة». كما جاء في مطلع بيان الجمعيات أنها «اعتبرت قرارات 25 جويلية 2021 خطوة هامة في اتجاه إنهاء منظومة فاسدة حالت فعلياً دون إقامة دولة قانون ومؤسسات قوية وعادلة» لكنها «لم تعطِ صكاً على بياض للإجراءات الجديدة».
كيف بقوى طالما أعلنت تمسّكها بالديمقراطية، بل وكافحت من أجلها، كيف بها، يا تُرى، قد ظنّت أن قيام رأس الدولة بتجميد مجلس النواب ومنح نفسه كافة السلطات هو سبيل مناسب إلى إصلاح نظام ديمقراطي متعثر وفاسد؟ أيعقل أنها لم تفطن أن ذلك أشبه بمن يعتقد أن قتل المريض هو السبيل المناسب لإشفائه من المرض؟ أنسيت كيف أن الانقلاب العسكري الذي توهّمت القوى المصرية التقدمية أنه سبيلٌ مناسبٌ إلى معالجة أزمة الديمقراطية الناشئة، لم يفضِ سوى إلى وأدها؟ لكن دعنا الآن مما مضى ولننظر إلى المستقبل. فإن السبيل الوحيد إلى سعي جدّي من أجل إخراج تونس من دوّامة الأزمة إنما يقوم حصراً، في نظر هذا الكاتب، على تشكيل جبهة إنقاذ تقدمية قوامها منظمات المجتمع المدني وعمودها الفقري الاتحاد العمالي، تنظمّ حملة شعبية من أجل إعادة تشغيل المؤسسات بصورة انتقالية وإجراء انتخابات جديدة في مهلة قريبة، على أن تخوض تلك الجبهة ذاتها المعركة الانتخابية طامحة إلى استلام مقاليد الحكم على أساس ديمقراطي لتتولّى بنفسها مسؤولية معالجة المشاكل التي طالما اشتكت منها وتطبيق الحلول التي طالما طالبت باعتمادها.
كاتب وأكاديمي من لبنان