اعتقد الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي أن ليبيا ليست تونس، وأن نظامه الذي استمر 42 عاما، ليس واهنا مثل نظام جاره زين العابدين بن علي، كي تعصف به ثورة سلمية شبابية، في أقل من شهر. لكن مع اندلاع الثورة في مصر، بزخمها البشري وشعاراتها الراديكالية، شعر “الأخ القائد”، كما كان يُحبُ أن يُنادى، بأن ألسنة اللهب تقترب من خيمته، وأن رياح التغيير تهزُ أوتادها، من الغرب (تونس) والشرق (مصر).
في البدء انطلقت حركة احتجاجية في بنغازي في 15 شباط/فبراير وكان محورها ذا طابع حقوقي يتعلق بمطالبة أسر المعتقلين السياسيين في مجمع بوسليم السجني، في أطراف العاصمة طرابلس، بمعرفة مصائر أبنائهم، الذين قضوا في مجزرة قادها القذافي وأبناؤه وصهره عبد الله السنوسي رئيس المخابرات، العام 1996. وتفجر الوضع في بنغازي مع اعتقال محامي أسر الضحايا فتحي تربل، في اليوم التالي، فتوسعت المظاهرات سريعا، وانتشرت في عدد كبير من المدن، متأثرة بما كانت تشاهده من تفاعلات الثورة في كل من تونس ومصر.
ثمنُ حل الجيش
وعلى الرغم من أن القذافي كان أمر قبل الثورة بحل الجيش النظامي مخافة حدوث انقلاب ضده، فإنه أطلق الكتائب التي يقودها أبناؤه لقصف المتظاهرين السلميين، برا وجوا، حتى بات كثير من المراقبين يخشون من وقوع مجازر في البيضاء والرجبان وبنغازي ورقدالين وجبل نفوسة والزنتان.
وتفاديا لذلك السيناريو، تشاورت كل من فرنسا وبريطانيا، بمباركة أمريكية، لإنشاء منطقة حظر جوي تُمنع بمقتضاها الطائرات الحربية الليبية من التحليق فوق المدن. وصدق مجلس الأمن على مشروع القرار، فيما أحجمت روسيا عن استخدام حق النقض، وهو موقف ندم عليه الروس، بسبب التداعيات السلبية التي عرفها الصراع، بعد تكثيف التداخلات الدولية في الأزمة.
تحرير طرابلس ومقتل القذافي
وأكمل الثوار مسار الانتفاضة بدخولهم إلى طرابلس المحررة يومي 21 و22 آب/اغسطس قبل قتل القذافي في سرت يوم 20 تشرين الأول/أكتوبر في ظروف ما زالت غامضة ومريبة. وبالرغم من تشكيل مجلس وطني انتقالي في بنغازي، انبثق منه “مكتب تنفيذي” قام مقام حكومة انتقالية، برئاسة محمود جبريل (وزير التخطيط في عهد القذافي) فإن اليد العليا كانت للقوى الدولية، التي دخلت على خط الصراع الليبي-الليبي. وخطط الرباعي فرنسا وبريطانيا والإمارات والسعودية لدفع الأمور، بعد التخلص من القذافي، نحو إعادة تأهيل أركان نظامه، بمن فيهم ضباط الجيش المنحل. وبعدما كانت إدارة الرئيس باراك أوباما أميل إلى الطريق “الثوري” الذي يقوض أسس النظام السابق، سرعان ما انضمت إلى موقف السعودية والإمارات ومصر، خصوصا بعد قمع انتفاضة البحرين. وأدى التسابق بين تلك القوى الدولية والإقليمية من أجل اقتسام النفوذ في ليبيا المنهكة، إلى تدويل واسع للربيع الليبي.
ندم جوبي
ويُقر اليوم وزير الخارجية الفرنسي آنذاك آلان جوبي، بأن التدخل العسكري الغربي “فشل تماما”. ولعب جوبي، في ظل رئاسة نيكولا ساركوزي، دورا محوريا في استصدار قرار مجلس الأمن الرقم 1970 بتاريخ 26 شباط/فبراير 2011 الذي شرع التدخل العسكري في ليبيا. ويُرجح مراقبون أن ساركوزي هو من أمر بقتل القذافي تفاديا لكشف دور العقيد الليبي في تمويل حملته الانتخابية العام 2007 وهي التهمة التي ما انفكت تلاحقه قضائيا حتى اليوم. وعبر جوبي لصحيفة فرنسية، بمناسبة مرور عشر سنوات على اندلاع انتفاضات الربيع العربي، بما فيها ليبيا، عبر عن ندمه قائلا إنه ليس متأكدًا من أن شعوب المنطقة أكثر سعادة اليوم مما كانت عليه في العام 2011. وأبدى أندرس فوغ راسموسن الأمين العام السابق للحلف الأطلسي، شعورا مماثلا حين أكد أخيرا، “أن درس ليبيا كان سلبيا، وهو ما جعل الحلف يُحجم لاحقا عن التدخل في العراق وسوريا” على ما قال.
نُخب فاشلة
بالرغم من انتخاب برلمان انتقالي “المؤتمر الوطني العام” المؤلف من 200 نائب في 2012 لم يتسن إجراء فرز سياسي، ولا تركيز مؤسسات تنفيذية جديدة، ولم يتحقق الاستقرار، بل تعرضت بعض المناطق التي كانت محسوبة على النظام السابق إلى أعمال حرق وانتقام شنيعة، أسوة بما عرفته مدينة تاورغاء (شمال) من تدمير وتهجير لسكانها. واستبدت الميليشيات التي شكلها أمراء الحرب، بالسلطة في غالبية المناطق واختطفت المؤسسات الجديدة، بما فيها حكومة الوفاق التي شكلها المهندس فائز السراج في 2018 والتي لم يستطع رئيسها ووزراؤها الدخول إلى القاعدة البحرية في طرابلس، من أجل تسلُم حقائبهم الوزارية إلا مُمتطين ظهر خافرة بحرية. ولم تستطع تلك الحكومة التي تألفت بموجب اتفاق بين الفصائل الليبية في اجتماع استضافه منتجع الصخيرات في المغرب العام 2015 تفادي حرب أهلية جديدة بين الحكومة المعترف بها دوليا والجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
وفي ظل تضعضع مؤسسات الدولة وغيابها تماما من جنوب البلد، تمدد تنظيما “القاعدة” و”داعش” نحو الشمال لمحاولة السيطرة على بعض المدن الساحلية، مثل سرت ودرنة. وتطلب إخراج العناصر المتشددة المسلحة من سرت حربا دامية استمرت أشهرا، فيما انفلت الجنوب من قبضة السلطة المركزية، التي لم تتجاوز دائرة نفوذها تخوم طرابلس. بالمقابل أرسى الجنرال حفتر، وهو من رفقاء القذافي، حكما عسكريا منشقا عن السلطة المركزية، قوض جميع الأهداف التي قامت من أجلها الانتفاضة. واعتمد حفتر على رئيس البرلمان المنتخب في 2014 عقيلة صالح ليُضفي شرعية على توليه قيادة ما دعاه “الجيش الوطني الليبي”. ويتألف عاموده الفقري من مرتزقة آتين من تشاد والسودان، قبل استقدام آلاف من عناصر الشركة الأمنية الروسية “فاغنر” للإجهاز على دفاعات طرابلس. غير أن الدعم التركي لحكومة الوفاق، وخاصة بالطائرات المسيرة، أفشل الهجوم وحمل الطرفين على التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار.
وإذا الموءودة سُئلت…
استطاع حفتر وأبناؤه وأد مكاسب الربيع الليبي في المنطقة الشرقية، مهد الانتفاضة، بنشر مناخ من الترهيب، وضرب حرية التعبير ومحاصرة وسائل الإعلام وملاحقة الأصوات المعارضة وسجنها أو قتلها. ومن آخر ضحايا هذه القبضة الفولاذية المحامية والنائبة سهام سرقيوة، التي اختطفها أحد أبناء حفتر ويُرجح أنه اغتالها. وعلى عكس شعارات الحرية والكرامة التي رددها الثوار الليبيون، أفسح حفتر في المجال أمام العناصر السلفية المتشددة، المنتمية إلى تيار رجل الدين السعودي ربيع المدخلي، والذي وضع مبررات للخضوع إلى الحكام، حتى لو كانوا ظلمة، بدعوى “درء الفتن”.
وفي المنطقة الغربية، تحول غالبية “الثوار” السابقين إلى أعضاء في كيانات مسلحة استقوت على الدولة بحجم السلاح الذي تملكه، ومصادر التمويل غير الشرعية المتعددة، التي يتصرف فيها أمراؤها. وباتت الحكومة والمجلس الرئاسي يعتمدان على تلك الكيانات من أجل بسط الأمن في العاصمة، وحماية الحكومة نفسها.
معركة الاستفتاء على الدستور الجديد
بهذا المعنى تلاشت أهداف الثورة واضمحلت، مع تنامي سطوة الميليشيات، على قوى المجتمع المدني، التي كانت تحمل لواء التغيير الجذري. ويجوز القول إن عسكرة الحياة اليومية باستحواذ الجماعات المسلحة على مصادر نفوذ متنوعة، حرف انتفاضة شباط/فبراير عن مسارها، ووضع مصيرها بين أيدي قوى الثورة المضادة، شرقا وغربا. وستكون إحدى المعارك الحاسمة في هذا الإطار الاستفتاء المرتقب على مشروع الدستور، والذي سيسبق إجراء الانتخابات العامة، المقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل. والمأمول أن يبتُ المشروع فسحة الحريات الفردية والعامة التي ستتاح للأفراد والأحزاب والنقابات، وأن يُحدد نوعية النظام السياسي الذي سيُعتمد في المستقبل.
لكن مناقشة مشروع دستور والاستفتاء عليه لا يمكن أن يتما بشكل طبيعي في ظل وجود قوات أجنبية وميليشيات مسلحة في كافة أنحاء البلد. وهذا هو معنى الدعوة الأمريكية الملحة، لمغادرة القوات النظامية والميليشيات الأجنبية الأراضي الليبية، إلى جانب حظر إرسال الأسلحة إليها، وهما أمران صعبا التحقيق في مناخ يغلب عليه منطق القوة لا منطق الحق.
ومن الخطوات المهمة التي يمكن أن تُعيد إحياء أهداف الثورة سن قوانين تحظر التداخلات الأجنبية في الانتخابات، وتُعاقب من يعتمد على التمويلات الخارجية، وتضع على السكة بناء مؤسستين عسكرية وأمنية حديثتين. وقد باشرت الحكومة الحالية إيجاد نواة للجيش النظامي المرتقب، بالاتفاق مع دول حليفة على إقامة دورات تكوينية لطلائع الجيش الليبي الجديد، الذي يُؤمل الليبيون أن يكون مختلفا عن جيشي القذافي وحفتر.
اقتباس
حفتر قوض جميع الأهداف التي قامت من أجلها الانتفاضة
لو سمح الله ووقع اي حاكم عربي بيد ايا من الشعوب العربية، فستكون نهايته مثل نهاية القذافي، القتل والعصا (وانتم تعرفون كيف استعملت).
لا داعي لانتظار الاوامر من ساركوزي او غيره.