نشأ الشعر مع نشأة الإنسانية، ورافقها منذ بداية الخلق. في البدء كانت الكلمة، والكلمة التي نطقها الشعر كانت منغّمة، وذات إيقاع، وحافلة بالرموز والإشارات والمداليل. من هنا تأتي «قوة الشعر» وهذا العنوان أستعيره من الناقد والكاتب البريطاني جيمس فنتان، الذي كان يحاضر في الأدب والشعر، فالشعر بتصوّره، وكما نتصوّره نحن العرب، فنّ الأبدية، الفنّ الخالد، وقد حفظت لنا الألواح السومرية والبابلية والآشورية العديد من القطع الشعرية المؤبّدة، ولشعراء قالوا جُملاً لا تنسى على مرّ العصور، كأبيات الشاعر البابلي يانوش كادرو. ولاحظ الاسم فهو قريب من اسم يونس قادر، وكذلك أشعار الشاعرة إنهدوانّا، أو إنخدوانا ابنة الملك الآشوري سرجون، فالسومريون كانت لهم لغتهم، ومفرداتهم اليومية التي لا تزال خالدة حتى اللحظة، وتستخدم باللهجة العراقية مثل كلمة «تِمَّن» وتعني الرز، وكلمة «بلم» وتعني»زورق» و»بوشي» وتعني النقاب، وكذلك كلمة «كباب» بالأكدية «كبابو» و»صريفة» وهي الكوخ سومرية، و «بوري» وهو الأنبوب المجوّف بالأكدية، أو قصبة البردي المجوّفة، و «سْلَيمة» وتعني شبح الموت بالبابلية، وكذلك كلمة «طعروزي» وهي خيار القثّاء، و»عكركة» وتعني الضفدع و»الزقنبوت» وتعني السم بالأكدية، وغيرها من مفردات الحياة اليومية.
في السياق ذاته، فقد نقل إلينا العلاّمة العراقي طه باقر، واللبناني العراقي من أصول إيطالية الأب أنستانس ماري الكرملي، والأوكراني صموئيل كريمر العديد من هذه الأشعار الخالدة، والمحفوظة في كتب بالعربية، وهذه الأشعار لا تزال تحتفظ بوهجها وحرارتها، وكأنها كتبت اليوم، وباستطاعة أي باحث ومختص وأديب العثور عليها بسهولة. ومثلما بقيت الكلمات والمفردات، كأدوات فهم واستعمال وتواصل، منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، بقيت الأشعار التي انبثقت وتأسست من خلال هذه الكلمات، وما ملحمة كلكامش إلا المثال الساطع على عراقة الشعر الخالد والمؤثّر، والمزامن للأبدية.
في ظل هذه الكلمات الموحية، عبر معانيها وأنسقتها الدلالية، تأسس الشعر العربي. وخير مثال على سطوع هذا المعنى، وبقاء أفقه الدلائلي الى اليوم، هو شعر امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، ثم أبو تمّام الطائي، والمتنبي، وجرير، والفرزدق، وغيرهم من العمالقة الأفذاذ الذين رووا بقصائدهم التربة العربية، ببواديها وواحاتها ثم قصورها، حتى يومنا هذا، وأقرب مثال إلينا من الأزمنة الحديثة هو السيّاب بتجديده الفني للشعر العربي، مع أقرانه من الشعراء الحديثين، إلى المجددين الأجد من الشعراء العرب وصولاً إلى شعراء هذه اللحظة من تاريخ الشعر العربي.
بيان القول من هذا الاستطراد أعلاه، وجوهره، هو الحديث عن الشعر ومدى خلوده على المدى البعيد، فهو الفن السامي والأرقى، كونه يجمع الفنون جميعها موسيقى، وإيقاعاً، وتدويراً سرديّاً، وحكاية، وحتى نفحة قصصية ومشاهد روائية، ورسماً وفناً تشكيلياً. فعلى سبيل السياق الموسيقي هناك النغمة السائدة في العروض الخليلي، والإيقاع الداخلي المتوفّر في بعض نماذج قصيدة النثر. هناك شعراء إنكليز وأمريكيون وأوروبيون أمدّوا الشعر العربي بتشاكيل وتلاوين وتخطيطات، وهندسات ومعماريّات شعرية كبيرة وواسعة. فالسياب جنح الى أديث ستويل وإليوت من أجل تطعيم قصيدته بالخلود، مثلما جنح إليوت نفسه الى دانتي في تأثيث قصيدة مخلدة، لتصمد أمام رياح الزمن، وهذا ما لمسناه في قصيدة «الأرض اليباب» وما يختزنه أفقها الدلالي من تعابير وتصورّات وأفكار وخيالات ودلائل يحملها نسقها المجازي، وكذلك البياتي انحاز إلى الشعر الثوري، اليساري، ذاك الذي كتبه شعراء يساريون في لحظتهم تلك، كبول إيلوار وأراغون وبابلو نيرودا. ومال صلاح عبد الصبور أيضاً إلى إليوت وأودن، أما أدونيس فإلى الشعراء الفرنسيين، أبرزهم سان جون بيرس، ومال نزار قباني إلى جاك بريفير وبول إيلوار، وأنسي الحاج إلى بروتون وجماعته من السرياليين، ويوسف الخال إلى الشعر الأنكلو سكسوني، وسعدي يوسف إلى لوركا ونيرودا وريتسوس، وكذلك الماغوط وانغماره بترجمات متنوّعة، حتى توصلوا إلى رسم بانوراما كبيرة للشعر العربي، بإبداعهم المتنوع، والمتعدد، والجديد الذي لا يزال يحيا بيننا.
ثمة من يدّعي الآن انحسار الشعر، أو ذبوله وأفوله لتسطع محلّه الرواية، وتتبوأ المكان الأول، وهذا كلام غير دقيق، كون الرواية فنّاً محكوماً بزمن مؤقت ومحدود لا يتعدّى العقد من الزمن، وذلك نجده حتى في الرواية العالمية، ثمة أسماء تظهر لتختفي، وروايات تطبع ليطويها الزمن بعد عام أو عامين من صدورها.
في أفق هذا التصوّر من التجديد المستمر للشعر العربي، بدءاً من منتصف الأربعينيات من القرن الفائت، وحتى هذه اللحظة، نجد الشعر لا يزال يُشير ويُدين ويلاحق بكلماته الطغاة والمستبدّين، ناقداً، ومستكشفاً، ومضيئاً بإشاراته، الخفايا والزوايا والمناطق المعتمة في مسرح الحياة والوجود، ومُلقياً برحلته داخل الأبدية ومنعرجاتها المظلمة، المزيد من الضوء والأنوار الكشافة، ليترك أثره في كلّ مكان يمرّ ويعبر به.
صفوة القول، ثمة من يدّعي الآن انحسار الشعر، أو ذبوله وأفوله لتسطع محلّه الرواية، وتتبوأ المكان الأول، وهذا كلام غير دقيق، كون الرواية فنّاً محكوماً بزمن مؤقت ومحدود لا يتعدّى العقد من الزمن، وذلك نجده حتى في الرواية العالمية، ثمة أسماء تظهر لتختفي، وروايات تطبع ليطويها الزمن بعد عام أو عامين من صدورها، طبعا لا أتحدّث هنا عن العبقريات التي ظهرت في الرواية، فتلك أسماء خالدة، محفوظة إلى جانب الشعراء الخالدين. لا أنكر في هذا المقام، أن الشعر يعاني من عدم الانتشار، أو من عدم إقبال الناس عليه، بسبب تعدد وسائل النشر الإلكترونية، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، التي أتاحت لكل راغب في نشر الشعر، أو الخاطرة، أو ما عنَّ في باله من كلمات على هذه الوسائل الحديثة، بحيث أصبح المتلقي لا يحتاج إلى ديوان شعر ورقيّ ليقرأه، ذلك أن القارئ المتسرّع مشغول بالنوافل، أمّا القارئ الرصين فهو يريد ديوان شعر ورقيّا، يتأمل قصائده في خلوته، وعلى انفراد، وربما أعاد قراءة النص الشعري مرّات ومرّات، لكيما يحفظه ويردده بينه وبين نفسه، أو بين أهل البيت أو بين الأصدقاء، أو يُدرّسه لغرض تربوي. لكنّ السؤال المطروح، هل يتذكر أي امرئ قارئ لرواية عربية، أو أوروبية سطراً واحداً منها، نصف سطر دال، جملة معبّرة، ذات مدلول جمالي وفني ليحفظها؟ قد يتذكّر القارئ الجو العام للرواية، شخصياتها، عوالمها، وبعض المشاهد المأساوية المؤثّرة، أو بناءها الفني، وذلك يحدث في الروايات الخالدة، تلك التي تميزت بالفتح الفني، التاريخي، كرواية «دون كيخوته» و»يوليسس» و»الصخب والعنف» و»مئة عام من العزلة» و»لوليتا» و»أولاد حارتنا» وكل الأعمال الروائية لديستوفسكي، لما تحمله من تحليل نفسي، ذات طابع فني نادر، فضلاً عن الدوافع التي تتنازعها الصراعات الداخلية لكل كائن. بينما القارئ يتذكر بكل بساطة ورحابة خاطر وتوهج بال وذاكرة، أبياتاً شعرية للخالدين من الشعراء العرب، المتنبي، أبي العتاهية، امرئ القيس، سحيم عبد بني الحساس، طرفة ابن العبد، السياب، أدونيس، نزار قباني، البياتي، سعدي يوسف، صلاح عبد الصبور، محمود درويش، أمل دنقل، الماغوط، أنسي الحاج، سركون بولص، والقائمة ستطول لو ذكرنا شعراء آخرين، من الأجيال الجديدة، واللاحقة، فثمة حفظة لهم من القرّاء.
شاعر عراقي
استاذ هاشم أنت تسأل في القسم الأخير من تقريرك السؤال الذي لم تجب عنه بالإيجاب:
لكنّ السؤال المطروح، هل يتذكر أي امرئ قارئ لرواية عربية، أو أوروبية سطراً واحداً منها، نصف سطر دال، جملة معبّرة، ذات مدلول جمالي وفني ليحفظها؟
ولكن جوابي هنا: قرأت، مثلا لا حصرا، رواية “زوربا الإغريقي” للروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكي، وأتذكر مها الكثير الجم من المقاطع والحوارات والجمل الرائعة، وهي لا تعد ولا تحصى !!