يعاني لبنان أزمةً اقتصادية واجتماعية خانقة، دينه العام يزيد عن المئة مليار دولار، لا حكومة لديه منذ أكثر من أربعة أشهر، ولا وفاق وطني بين أطراف منظومته الحاكمة، ولا تعاون بين القوى المعارضة لها منذ سنوات.
ترَدَد أن أركان المنظومة الحاكمة توصّلت إلى تسوية تتألف بموجبها حكومة اختصاصيين قبل عيد الميلاد في الأسبوع الماضي، لكن المكلّف تأليف الحكومة سعد الحريري «بشّر» اللبنانيين بأن الحكومة الجديدة لن ترى النور قبل العام الجديد، كما أن أحداً من المعارضين لم يبشّر اللبنانيين الساخطين بأن جبهة موحدة لقوى المعارضة سترى النور في أجل قريب.
قيامةُ لبنان مؤجلّة، إذن، ليس بسبب تعذّر تأليف الحكومة فحسب، بل بسبب إخفاق المعارضين أيضاً في بناء جبهة متماسكة، وقادرة على إزالة ما تبقّى من هياكل متهالكة لنظام المحاصصة الطوائفية الميت سريرياً. يعزو بعض المفكرين السياسيين حدّة الأزمة إلى قوى خارجية، تجد لها بين أمراء الطوائف شركاء ووكلاء. صحيح أن للقوى الخارجية، خصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا، نفوذاً ودوراً، لكن ما كان لنفوذها وتدخلاتها أن تكون مؤثرة، لولا وجود قابلية لها في صفوف الحاكمين وجمهور المناصرين، فلبنان بلد تعددي، تعدديته عميقة، راسخة ومرهقة، عمادها 18 طائفة معترفا بها دستورياً وقانونياً، يتقاسم زعماؤها مفاتيح ومناصب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصلاحياتها، كما المصالح والمغانم والأسلاب الناجمة عن ممارستها. عمرُ نظام المحاصصة الطوائفية نحو مئة سنة، اي مذّ أرسته سلطات الاستعمار الفرنسي سنة 1920، ولم تطرأ على دستوره أي تعديلات جوهرية بعد الاستقلال سنة 1943، ولم تُوضع موضع التنفيذ الكثير من مواده، خصوصاً تلك التي انطوت على إصلاحات نسبية تضمّنتها وثيقة الوفاق الوطني لمؤتمر الطائف سنة 1989. نَجَم عن تركيبة البلد التعددية وتركيبة نظام المحاصصة الطوائفية نشوء منظومة، بل شبكة سياسية حاكمة تمكّنت طوال العهود التي أعقبت الاستقلال من أن تعيد إنتاج النظام وإنتاج نفسها من خلال قوانين للانتخابات غير دستورية وغير ديمقراطية.
قيامةُ لبنان مؤجلّة، ليس لتعذّر تأليف الحكومة فحسب، بل بسبب إخفاق المعارضين أيضاً في بناء جبهة متماسكة بين اللبنانيين
رافق سوء إدارة النظام اندلاع أزماتٍ سياسية واقتصادية معقّدة، تسبّب بها أهل النظام أنفسهم، وأخرى نجمت عن أحداث وحروب إقليمية تُوِّجت بحدثٍ جلل هو الانفجار (أو التفجير) الذي دمّر مرفأ بيروت وشطراً من العاصمة، إذ تفاقمت الأزمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، تدخّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتخفيف معاناة اللبنانيين ظاهراً، ولحماية مصالح فرنسا ونفوذها باطناً، فزار لبنان مرتين واجتمع إلى زعماء طوائفه المتصارعين على المصالح والمغانم والنفوذ، إلى أن تمكّن من الاستحصال على موافقة لفظية منهم على بنود إصلاحية تضمنتها مذكرته للخروج من الأزمة. إدارةُ الرئيس دونالد ترامب تظاهرت بالرضى عن تدخل الرئيس الفرنسي، إلاّ انها اعتمدت ضمناً سياسةً لتغيير الفريق السياسي الحاكم، وذلك بدعم عناصر قيادية في بعض تنظيمات المجتمع المدني بغية إشراكها في حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين، بعدما جرى التوافق مع الفرنسيين وبعض الأطراف السياسيين المحليين على اعتمادها أداةً للخروج من الأزمة المستعصية ولحماية مصالح الأطراف المتحالفين. كل التدخلات والمحاولات الخارجية والداخلية أخفقت في استيلاد تسوية متوازنة بين الأطراف السياسيين المتصارعين، ما حَمَل سعد الحريري وأصدقاءه على تغطية الفشل، بالزعم أن توافقاً تمّ على إرجاء تأليف الحكومة إلى ما بعد تسلّم الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن مقاليد الرئاسة، تفادياً لأيّ نزوة تخريب يفتعلها ترامب قبل انتهاء ولايته في 20 كانون الثاني/يناير المقبل.
من مجمل هذه الواقعات والملابسات ومن معطيات أخرى بعضها معروف وبعضها الآخر غير مكشوف، يمكن استخلاص الحقائق والتوصيات الآتية:
*أولاها، يبدو متعذراً توافق أركان الشبكة الحاكمة على تسوية متوازنة بين الأطراف الداخلية والخارجية المتصارعة للخروج من الأزمة المستعصية.
*ثانيتها، وجوب دعوة القوى الوطنية التقدمية، أفراداً وتنظيمات، إلى رفض المشاركة في أي حكومة تسووية يتوافق عليها أطراف الشبكة الحاكمة وحلفاؤهم الخارجيون، حفاظاً على صدقيتهم وجدّيتهم، وتفادياً لمدّ الشبكة الحاكمة بدم جديد يساعدها على تطويل عمر النظام السياسي الفاسد والمترهل.
*ثالثتها، أن القوى الوطنية التقدمية، أفراداً وتنظيمات، مدعوة إلى تسريع وتكثيف جهودها الرامية إلى بناء جبهة وطنية عريضة ببرنامج أولويات سياسية واقتصادية واجتماعية لقيادة النضال السياسي والاجتماعي الرامي إلى تجاوز النظام الطوائفي الفاسد سلمياً وتدريجياً في سياقِ تصدٍّ جدّي لمحاولات جهات داخلية وخارجية محافظة ومعادية للطبقات الشعبية، الإسهام في عملية مشبوهة لتغيير النظام ووراثته لمصلحتها، وإعادة إنتاجه بصيغة لامركزية سياسية وإدارية موالية لأساطين الأموال والأعمال في الداخل، والقوى المعادية لاستقلال البلاد وحريتها وسيادتها في الخارج.
*رابعتها، وجوب التزام الجبهة الوطنية العريضة بدعم المقاومة الناشطة ضد العدو الصهيوني وحلفائه المحليين، والتنسيق معها، ولاسيما في مواجهة الجهات العاملة على تفكيك الجمهورية إلى كيانات طائفية، من خلال نظام فدرالي أو كونفدرالي، والتصدي الجاد لها، بإقامة منظومة ترتيبات اقتصادية واجتماعية للوفاء بمتطلبات الشعب، خصوصاً الفقراء وذوي الدخل المحدود، من ضروريات المعيشة الأكثر إلحاحاً.
*خامستها، الانفتاح على الشرقين الأدنى والأقصى، ولاسيما على الدول والشعوب المنخرطة في الصراع ضد قوى الهيمنة العالمية، والتعاون معها في شراكات ومنظومات للتنمية والإعمار ولتعزيز المصالح المشتركة.
إن الغاية من استخلاص هذه الحقائق والتوصيات، هي تصويب وتعزيز العمل الجاد من أجل بناء ثقافة جديدة مغايرة ووعي أكثر إحاطة بالتحوّلات الجذرية الجارية في محيطنا القريب، وفي العالم أجمع التي تشي بانتقال متدرج ومتنامٍ من زمن إلى زمن آخر، ومن نظام عالمي قديم ومترهل إلى نظام عالمي جديد ومغاير. في سياق هذا الانتقال من الزمن الزاخر بالتحوّلات إلى زمن آخر مغاير، تبزغ معه قيامة لبنان وربما غيره أيضاً في بلاد العرب.
كاتب لبناني
الطائفية في لبنان كالغباء ليس لها حل، سيتم تجويع اللبنانيين و تدمير عملتهم و اقتصادهم. لبنان يتدحرج إلى الهاوية و لن تقوم له قائمة.