قيس سعيّد وخطبه إلى التونسيين

حجم الخط
30

كيف يخاطب السياسيون شعوبهم في أوقات الأزمات الكبرى؟ وكيف يصلون إلى عقولهم وقلوبهم فيبعثون في نفوسهم الطمأنينة في زمن القلق والهلع؟ تحد فرضه «كورونا» فتسبب لبعضهم في «أضرار جانبية» إضافية.
الرئيس التونسي قيس سعيّد، ككل الرؤساء والملوك في العالم، وجد نفسه يتوجه إلى شعبه ليس في إطار حملة انتخابية ولابعد انتصار في الرئاسيات ولا للتهنئة بالعيد، وإنما في أوج أخطر أزمة عرفتها بلاده والعالم في العقود الماضية، فكان أن واجه عاصفة حادة من الانتقادات، من محبيه وخصومه على حد سواء.
تركزت الانتقادات على مجمل الخطاب شكلا ومضمونا، لكنها انصبت بالخصوص على استعماله اللغة العربية الفصحى بمزاج جاد متخشب يشبه أساليب المتحدثين العسكريين، أو مذيعي «صوت العرب» في حروب الستينيات، مع كثير من الجمل الشعاراتية التي لا يتحملها الموقف. لم تكن هناك أي تضاريس في الكلام، لاعفوية أو حميمية في التواصل مع أناس في أمس الحاجة لمن يتبسّط معهم وكأنه يجالسهم في بيوتهم وليس كمن يحاضر في مؤتمر دولي.
فن الحديث إلى الجمهور هو بالنسبة للسياسيين موهبة في المقام الأول ثم مران على تقنياته على يد مدربين مختصين، من دون أن نغفل أن للتونسيين مزاجا قاسيا في الحكم فلا يتقبلون أويستسيغون أيا كان بسهولة. من سوء حظ سعيّد أن الأمرين لم يكونا لصالحه.
رئيسان تونسيان فقط نجحا بامتياز في هذا المضمار هما الراحلان الحبيب بورقيبة والباجي قايد السبسي، فيما لم يكن للراحل زين العابدين بن علي هذه الملكة لكنه كان واعيا بها ولهذا كان مقلا في حديثة متمسكا بالنصوص المكتوبة إلا فيما ندر. أما منصف المرزوقي فظل ذلك المناضل الحقوقي في نظر الجمهور رغم محاولاته الدؤوبة لتبسيط ما يطرحه. ومما روي عن بورقيبة من رفاق ووزراء سابقين أنه كان يعدّ سيناريو متكاملا لخطابه متضمنا حتى متى عليه أن يبدي بعض التأثر، أو حتى يجهش بالبكاء، مع إعداد جيد للسياق المناسب لإيراد آية قرآنية هنا أو هناك أو مثلا شعبيا أو بيتا من الشعر حتى لتظن أنك أمام راو وليس رئيس دولة، وكل ذلك باللهجة التونسية مع حضور شخصي طاغ وخاصة نظرات عيونه الزرقاء.

كثيرون في تونس، ومن محبي الرئيس سعيّد أنفسهم، نصحوه بأن «يلــيّن» كلامه قليلا وألا يلقيه بهذا الأسلوب المتكلس، بلا روح ولا نكهة، وبلا قسمات وجه معبرة

هذا التمشي الشعبي لم يكن يمنعه من إلقاء بعض الخطب بالعربية الفصحى، السليمة للغاية بالمناسبة، ولكنه لم يلجأ إلى ذلك إلا في السياق المناسب كاجتماع لكوادر حزبه أو خطبة من منبر جامع الزيتونة أو قمة عربية أو لقاء قمة مع رؤساء دول داخل تونس أو خارجها، فلكل مقام مقال. وعلى هذا المنوال سار قايد السبسي، وزيره السابق وابن مدرسته، مع جرعة ظرف استطاع بها أن يحوز إعجاب الناس ويطمئنهم في أكثر من حدث.
كثيرون في تونس، ومن محبي الرئيس سعيّد أنفسهم، نصحوه بأن «يلــيّن» كلامه قليلا وألا يلقيه بهذا الأسلوب المتكلس، بلا روح ولا نكهة، وبلا قسمات وجه معبرة وكأنما الرجل مبرمج مسبقا. هذا عيب قاتل لأن أي سياسي يريد في النهاية أن ينفذ إلى أعماق شعبه كي يفلح في توجيهه وتعبئته، أما إذا انشغل الناس بطريقة حديثه وليس بالمضمون فذلك يعني ألا شيء وصل إليهم أبدا!!
اثنان عرفتهما لم يكونا يتحدثان سوى العربية الفصحى في كل مكان ومع أي كان، كلاهما فلسطيني، هما عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير المفكر والأديب أحمد صدقي الدجاني الذي رحل عام 2004 والكاتب والناقد الأدبي حسام الخطيب أطال الله في عمره حتى أن أصدقاء ابنته، وكانوا أطفالا، يصابون بالدهشة عندما يتصلون بالهاتف فيرد هو عليهم إذ كانوا يسارعون بارتباك إلى إنهاء المكالمة حين يقول لهم بلغة المسلسلات التاريخية إن ديمة ليست هنا وستعود بعد هنيهة!! هؤلاء شيء والسياسي الذي يتوجه إلى شعبه في أوقات المحن شيء آخر تماما.
أردت ذات مرة تجديد اللقاءات التلفزيونية مع الراحل محمد حسنين هيكل فاعتذر قائلا إن الوضع دقيق لذا فهو «يفضل انضباط الكلمة المكتوبة» حتى لا ينساق في الارتجال وفي الرد على الأسئلة فيجد نفسه يقول ما لم يكن من الحصافة أن يقول. أغلب القادة يفضلون في اللحظات العصيبة تجنب الارتجال والاعتماد على نص مكتوب بعناية ولا عيب في ذلك.
رئيس الحكومة التونسية إلياس الفخفاخ مثلا توجه إلى الشعب في هذه الأزمة بأكثر من كلمة كانت جميعها بلهجة تونسية مهذبة أقدرعلى النفاذ إلى الناس رغم غياب الجدية في احترام موعد بث كلمته الأخيرة لأكثر من ساعتين. صحيح أنه لم يرتجلها وإنما كانت مكتوبة قرأها من جهاز القارئ الآلي لكن لا مشكل في هذا فمعظم السياسيين في العالم يعتمدون عليه. كان بإمكان الرئيس سعيّد أن يفعل الشيء نفسه، إذا لم يشأ الارتجال بالعامية، لكن في كل الأحوال عليه أن يراجع أسلوبه ويتخلى عن عناده في التمسك بطريقته المتكلسة في الحديث، شكلا ومضمونا، وإلا فالبون بينه وبين شعبه سيزداد اتساعا للأسف. بصدق لا أحد يريد له ذلك.

كاتب وإعلامي تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي حسين أبو طالب / Skellefteå:

    على الرئيس العربي الفصيح قيس سعيد المحافظة على لغته العربية الفصحى فهذه علامته الفارقة بين رؤساء بلده ، و لغتنا العربية جميلة و بها أكرم الله العرب إذ اصطفاها لغة للقرآن الكريم و لولا ذلك لما كانت اليوم أمة عربية واحدة فيجب المحافظة على فصاحتها في الخطاب و الكتاب ، لكن على الرئيس سعيد مخاطبة الناس على قدر عقولهم فلكل مقام مقال ، فعند نكبة كنكبة الكورونا ، لا بد من مخاطبة الناس باللغة التي يفهما أبسطهم علماً و ثقافة و إن اقتضى الأمر اللجوء إلى اللهجة المحلية ،و لهجاتنا العربية جميلة و هي و إن دخلت عليها مفردات أعجمية إلا أنها من صميم لغتنا الفصحى ، مثلاً في اللهجة العراقية و هي من أحلى اللهجات العربية و أكثرها غنى بالإقتراب من أصلها العربي نرى كلمة ” إشلونك ؟ ” عند السؤال عن الحال ، فبإرجاعها إلى الأصل اللغوي العربي تكون : أي شيء لونك ؟ . نرجو أن تلقى ملاحظاتك هذه يا أستاذ محمد صدى طيباً لدى الرئيس قيس اسعيد فيكف قليلاً عن ” التمادي ” في استخدام اللغة العربية الفصحى في مخاطبة جمهوره الكريم .

  2. يقول علي حسين أبو طالب / Skellefteå:

    يقول طه حسين ” لغتنا العربية يسر لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه في العصر الحديث ” .
    بستطيع الرئيس قيس سعيد أن يلتزم بفصاحته اللغوية أثناء الخطاب و يضيف إليها شيئاً من اللهجة العامية التونسية كي يفهمه عامة الناس خاصة في نكبة مثل نكبة الكورونا اليوم . فلا يمكن التخلي عن اللغة الفصحى و بها البلاغة الجميلة، البلاغة مهمة في لغتنا العربية و أثرها عظيم في النفوس ، يقولون أن متظلماً ذهب إلى ديوان الحاكم في بلده يشتكي فطلبوا منه تدوين مظالمه في رسالة ، و لما كان أمياً نصحوه برجل بليغ في كتابته ليكتب له ظلامته في رسالة ، ففعل و ذهب إلى هذا الكاتب و سرد عليه كل ما يعانيه من ظلم ، و بعد أن انتهى الكاتب من كتابة الرسالة تلاها على المشتكي الذي كان يبكي و يبكي أثناء التلاوة ، و بعد الإنتهاء من ذلك سأل الكاتبُ المتظلمَ عن سبب بكائه أثناء تلاوة الرسالة ، فقال الأخير لم أكن أعرف أني مظلوم إلى هذه الدرجة .

  3. يقول علي حسين أبو طالب / Skellefteå:

    اشتهر الرئيس التونسي الراحل قايد السبسي بكثرة عثراته اللغوية أثناء خطاباته و خاصة مع القرآن الكريم ، فعندما أراد الإستشهاد بالآية الكريمة ” وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ” صارت عنده هكذا ” و قل جاء الحق و زهق الباطل إن الحـــــــــــق كان زهـــــــــــوقاً ” .

  4. يقول أسامة حميد -المغرب:

    ما هو العيب في الكلام باللغة العربية الفصحى؟ الرئيس قيس سعيد يزداد احتراماً وحظوة عند الناس تحديداً لأنه يتقن ويحترم اللغة العربية. لماذا يريد البعض أن يجرنا إلى الوراء؟ هل أصبح الحديث بالعامية منقبة تمنح لصاحبها وجاهة أو قبولاً بين الناس؟ بل العكس هو الصحيح تماماً. فأي مسؤول عاجز عن مخاطبة الجماهير بلغة عربية فصيحة وراقية يتدحرج إلى أسفل في أعينهم لأنهم يعدونه أمياً لا يستحق المنصب الذي يشغله. وقد سمعت مراراً تعليقات ساخرة عن هذا الوزير أو ذاك بسبب أخطائه اللغوية وهو يحاول الحديث بالعربية الفصحى . أما إذا اقتصر على العامية فتلك علامة العجز وتدني المستوى الذي لا تخطؤه العين حتى لو كان صاحبه يوصف “بالصحافي الكبير” الذي يحتل شاشة التلفزة لعدة أسابيع أو شهور وهو يخاطب الناس بلهجة بلاده العامية بينما مقدم الحلقات الذي يحاوره . ولكني أتفق مع الأستاذ كريشان في مسألة التعابير الجسدية لأنها تحمل دلالة سيميائية لها أحياناً نفس قوة الكلمات. اما الخطاب “الفوتوشوب” الذي يتضمن “حتى متى عليه أن يبدي بعض التأثر، أو حتى يجهش بالبكاء” فلم يعد ينطلي على جماهير القرن الواحد والعشرين التي تروم الصدق والتلقائية وتتبرم من التصنع والتكلف .

    1. يقول أسامة حميد -المغرب:

      بينما مقدم الحلقات الذي يحاوره لا يستعمل إلا اللغة العربية الفصحى السليمة وبسلالة متناهية…

  5. يقول استبرق عزاوي:

    لا ننسى ان الرئيس التونسي قيس سعيد هو قاضي وتتسم شخصية القاضي بالجدية واعتقد ان شخصيته المهنية السابقة في سلك القضاء مازالت تطغي على أدائه وكنت قد تابعت الرئيس قيس في اكثر من مؤتمر صحفي مع رؤوساء دول وهو يتكلم اللغة العربية بهذه الطريقة الجادة جدا .

    1. يقول أسامة حميد -المغرب:

      حرمه المحترمة هي القاضية أما السيد قيس سعيد فأستاذ جامعي تخصص قانون.

  6. يقول سعيد/الأردن:

    مقال رائع عبّر عما يجول في خاطري…قيس السعيد لقد أحببته منذ فوزه برئاسة تونس مما لاشك فيه بأنه نزيه وشريف ووطني عروبي متمسك بدينه ومحب لشعبه ووطنه ولكنه وضع علي المحك عندما إستلم الحكم في بلد ذا إمكانيات متواضعه وقوي متضاربه تحاول العصف بمن يحكم ولكن السوآل هل هو فعّال لما يقول أعتقد كلا ..لو حاكماً لليابان لكان فعّال لما يقول ولكن في تونس كلا لأن المسببات لفشل الحاكم في تونس كثيرة جداً…أعتقد أفضل طريقه لإختيار الحاكم في الدول العربيه هي الطريقه التي وصل بها أردوجان للحكم حيث يتم إحتكاك تدريجي لذلك الحاكم بالشعب وفهم مشاكل الشعب وطريقة حلولها….

  7. يقول سامح//الاردن:

    *الخطابة (موهبة) والقبول من عند الله.
    الراحل (ابوعمار) تميز بهما..
    كذلك الراحل (عبدالناصر )..
    *كل التوفيق للرئيس التونسي.

  8. يقول فادي-- فلسطين:

    رئيس نزيه ومثقف يتكلم بشكل سليم ٠٠ليس مثل بعض رؤساء وملوك العربان

  9. يقول سلام عادل(المانيا):

    الاخ علي حسين أبو طالب
    مفردة شلونك العراقية لا تعني اطلاقا : أي شيء لونك ؟كما ذكرت فهي تقابل مفردة كيفك في الشام او البلدان الاخرى فالعراقي عندما يريد ان يستفهم يستخدم شلون ؟كما يستخدم اهل الشام بالمقابل كيف؟ وفي العراق هناك مفردات كثيرة تستخدم بحسب مناطقه تعود باصولها الى سومر واكد وهناك الارامية التي كانت لغة ثقافتهم لفترات طويلة بالاضافة الى الفارسية والتركية واخيرا الانكليزية

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      حياك الله عزيزي سلام وحيا الله جاري العزيز علي وحيا الله الجميع
      كلمة شلونك تداولها العراقيون منذ قرنين بسبب الطاعون! فلون البشرة الصفراء مريض, واللون الأحمر شديد المرض, أما اللون الأزرق فيرحمه الله!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    2. يقول علي حسين أبو طالب / Skellefteå:

      أخي السيد سلام عادل
      نعم هذا ما أقصده , شلونك العراقية تعني كيف حالك ؟ و لكن بتفكيكها لغوياً تكون أي شيء لونك ؟ .
      و تعميماً للفائدة ، أنقل لك أدناه من أحد مواقع التواصل الإجتماعي و بتصرف ما يلي :
      شلونك ” كلمة طالما يتداولها العراقيون في السلام والتحية فيبادر احدهم الاخر حين يلتقيه بكلمة شلونك ؟ أي كيفك أو كيف حالك ؟ .
      و أصل الكلمة ” شلونك ” تعود للقرن السابع عشر الميلادي في مدينة بغداد عندما أصابها وباء الطاعون ، حيث كان الشخص المصاب بالطاعون يمر بثلاث مراحل للمرض و كل مرحلة يكون جسم الإنسان بلون و هو الأحمر و الأصفر و الأزرق ، اول لونين أي الأحمر و الأصفر يمكن للمريض فيهما أن يشفى أما اللون الثالث أي الأزرق فإنها مرحلة الخطر و هو الموت الزؤام أي الموت الكريه و السريع ، فكان الناس يسألون عن الشخص المريض فيقولون ” فلان شلونه ؟ ” أي ما هو لونه ؟ ، و هكذا انتشر هذا السؤال في العراق و الخليج العربي إلى يومنا هذا للسؤال عن حالة أي إنسان ما بصورة عامة ، شلونك ؟ للمخاطب و شلونه ؟ للغائب و للجمع شلونكم و شلونهم ، أي بمعنى كيف الحال ؟ ”
      و لا خلاف بيننا و شكراً حيث جعلتني أبحث في هذه القضية و كان البحث مفيداً .

    3. يقول علي حسين أبو طالب / Skellefteå:

      عزيزي الكروي داود حياك الله ,
      و قد لمحت تحيتك بعد كتابة كلماتي ,
      نحن متفقون .

  10. يقول د.كامل خضر:

    إنه يتكلم اللغة العربية لغة الفصاحة والبلاغة والبيان
    لم يستخدم لغة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية
    يتحدث بلا تاتاة ولا ساسة ولا مأمأة.
    إنه يتحدث إلى شعب عربي يقرأ القرآن ويسمعه ليلا ونهارا
    لم لا يرتقي منتقدوه بمفرداتهم بدلا من الغمز واللمز
    أم اقسموا على أنفسهم ألا ينظروا إلا النصف الفارغ من الكأس

    1. يقول sassi souid:

      يا دكتور ربنا يبارك فيك ،
      صحيح الرئيس التونسي يتقن اللغة العربية في بلد أغلب سكانه أصلهم غير عربي و هذا مشرف له لكن المطلوب أن يغير الاسلوب ليكون أقرب الى قلوب مواطنيه التوانسة

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية