كأس واحدة ستحملك إلى عالم آخر..
قرأت هذا الصباح في قصاصة ورق مهملة على طاولة المقهى، تمعنت في حروفها المنقوشة بعناية فائقة، وأنا أتساءل عن الكأس المقصودة، أتراها الكأس المقدسة في «شيفرة دافينشي»، أم تراها كأس العالم، أم مجرد كأس ماء بارد لتبديد حرارة الجو الخانقة.
كؤوس كثيرة تتراقص في خيالي الآن…
صدى خطوات النادل يوقظني من شرودي المفاجئ، أطلب فنجان قهوة سوداء، أناملي ما زالت ملتصقة بقصاصة الورق، وكأنني عثرت على كنز ثمين أو حل لإشكالية فلسفية معقدة، ما شأني بالفلسفة؟ لا أتذكر أنني أحببتها يوما، أو واظبت على حضور دروسها عندما كنت في الثانوية، إذن سأكتفي بالكنز الثمين. النادل مرة أخرى، يشوش تفكيري بحضوره المفاجئ، يا للعجب كيف أحضر القهوة بهذه السرعة؟ أتساءل وأنا أتأمل المقهى الممتلئة عن آخرها بالزبائن. عينا النادل مركزتان على القصاصة بين يدي، يعيد مسح الطاولة للمرة الثانية، قبل أن يضع فنجان القهوة أمامي ببطء.
– احتفظ بها قد تنفعك…
ألقيت بالقصاصة في الصينية، فكري ما زال غارقا في هذه العبارة التي حفظتها في ذاكرتي. أستحضر القواميس والدلالات، أستحضر مفاهيمي الفلسفية البسيطة، أتساءل مرة أخرى عن الكأس السحرية، التي شتتت تفكيري هذا الصباح، عن المجنون الذي كتبها ورحل، تاركا مجنونا آخر يستهلك ساعات وساعات في عبارة قد لا تعني شيئا. حاولت دراسة الملفات المؤجلة وتدقيق الجداول، لكن القلم تجمد بين أناملي متضامنا مع فكري المشلول أمام العبارة العجيبة، مرددا مرة أخرى: كأس واحدة ستحملك إلى عالم آخر… النادل مرة أخرى، يضع كأس ماء مثلجة على الطاولة ويغير منفضة السجائر، غريب أمره هذا الصباح، ألوح له مرة أخرى، يهرول إليّ مسرعا، يبدو أنني أعطيته فرصة ذهبية ليشاركني الحديث، طلبت كأس عصير لأبدد مرارة القهوة السوداء، وطعم السجائر القاسي قبل أن أقصد مكتبي الصغير في الشارع الخلفي. ساعات طويلة بين الأرقام الثقيلة والعبارة العجيبة، قبل أن أجدني في الشارع مرة أخرى، أعانق وحشة الشمس المغتربة عن المدينة الباردة. البحر يبدو هادئا من هنا، لن أقصد المقهى هذه الليلة، سأتجول قليلا، لأتخلص من رتابة الجدران الأربعة التي تحتويني كل يوم. العبارة تلوح من جديد، في صورة امرأة تطلق ضحكتها الرنانة فتثير انتباه المارة من حولها، قبل أن يحكم أحدهم قبضته على كتفيها ويخرس ضحكتها بقبلة خاطفة.
كأس واحدة ستحملك إلى عالم آخر…
الجوع ينتابني فجأة، يبدو أنني لم أتناول شيئا منذ الأمس أو منذ الصباح الباكر، فكرت في أن أجرب الأكل في أحد المطاعم المطلة على شاطئ البحر، لعلني أتخلص من نكهة الوجبات اليومية. قصدت أول مطعم لمحته على يميني، لن أتعدى نصف ساعة لتناول وجبة دسمة. كان مطعما فاخرا، يعج بالزبائن ذوي البدل الرسمية والسجائر الفاخرة، وأتساءل مع نفسي: أتراه العالم الآخر لأصحاب القرار. أبخرة مختلفة تعطر الجو، موسيقى صاخبة، أجساد بشرية تتلوى على إيقاع «حبك أنت جابني بالليل ما بيا ما علي» تأملت حذائي الذي لم ألمعه منذ الأسبوع الماضي، تأملت ملابسي المبعثرة، أحسست بالاختناق، فعدت أدراجي قبل أن أصطدم برجل يسترجع ما أكله في الممر الخارجي. ضجيج الموسيقى يخترق طبلة أذني، جماعة يتمددون على الرمل يغنون للبحر، أصواتهم تشتتني، ترحل بي، تعيدني إلى العبارة العجيبة، أتجول بلا هدى ولا رغبة لي في العودة إلى غرفتي الباردة المظلمة.
– إنها هي…
صرخت فجأة، وأنا أحدق في العبارة التي تعلو البوابة قبالتي «الكأس السحرية»، أتراها الكأس التي أبحث عنها، حملت جسدي المتعب، قصدت البوابة وكأنني مسحور سائر بلا هدى، كأس كبيرة تستقبلني عند المدخل مع ابتسامة عريضة من شفتي امرأة ساحرة، قادتني إلى شرفة هادئة، أنيقة، مطلة على الإسفلت الرمادي. أنوار السفن المقبلة من الضفة الأخرى تلوح لي من بعيد، وكأنها لوحة طبيعية خطت بأنامل ذهبية، المرأة الجميلة تختفي ثم تعود بعد لحظات بكأس كبيرة ذهبية أو هكذا خيل لي، ترى أين رأيت هذه الكأس، أستحضر الأفلام القديمة وأهمس في أعماقي:
– ها أنا في حضرة الكأس الكبيرة والصغيرة…
شربت الكأس الأولى، فبدت لي الغرفة رمادية اللون، وبدوت مثل بطل من أبطال العصور الغابرة عائد من معركة عظيمة، تستقبله حبيبته الجميلة بقبلة شبقية. شربت الثانية، لم أر العالم الوردي المنتظر، شربت الثالثة فوجدت نفسي أدندن بأغنية قديمة من طفولتي المنسية.
– تبا…
كنت أردد في أعماقي وأنا أتناول الرابعة والخامسة…
القمر كان مضيئا، يبتسم لي، يلوح لي بأنامله البيضاء، يدعوني إليه، وأنا هنا أشرب الكأس السابعة والثامنة، صوتي يزداد صخبا وغناء… أغمض عينيّ، وأفتحهما، صورتها تلوح لي من خلف الكأس، رائحة عطرها تدغدغ أنفي، تبعثرني، أتأمل لمعان قرطيها الفضيين المتدليين على كتفيها، بياض ساقيها من خلف الفستان الحريري. أحك عينيّ لعلني أخرج من هذا الحلم، لكن الحلم يتجسد في شكل امرأة ليست ككل النساء، مرة أخرى أجدني مجبرا على استحضار صور تاريخية لا أذكر عنها شيئا.
كأس واحدة ستحملك إلى عالم آخر…
العبارة تفرض نفسها بدون استئذان، رأس الأفعى المثبت فوق شعرها الأسود الحريري، يدفعني للتساؤل عن المرأة المجهولة التي تقتحم خلوتي الآن، هل أخطأت العنوان، وقفت مترنحا، وكأنني أحيي الملكة، لكنها أشارت لي بيدها، فعدت لمجلسي الدافئ. صورتها مألوفة لديّ وكأنني أعرفها، صوت الأجراس وصهيل الخيول يقترب من أذني وكأنني في معركة حامية أو ملحمة تاريخية.
– كليوباترا.. سيدة مصر!
صرخت فجأة، ففغرت شفتيها عن ابتسامة دافئة، ذوبت كل الجليد الذي تراكم داخلي.
– كيف جئت إلى هنا؟
أجابتني وهي ما زالت تتقدم نحوي.
– ناداني كأسك السحري فلبيت النداء.
أعتدل في جلستي، أتساءل كيف لبائس مثلي بكل هذا الحظ في لقاء الملكة؟ أغمض عيني وأفتحهما، يستمر الحلم الجميل، الملكة تتربع على عرشها قبالتي، والكأس الفارغة تنادي العاشرة. أتأملها من وراء الكأس، ضباب خفيف يشوش الرؤية، المرأة تعود من حيث أتت، الخطوات البطيئة نفسها، أحاول اللحاق بها، لكنها تبتعد وتبتعد إلى أن تصير نقطة حبر بلوحة معلقة على الجدار. العبارة تتحقق الآن.. كأس واحدة ستحملك إلى عالم آخر… أغمض عيني مرة أخرى وأفتحهما، أتأمل الجدران البيضاء، الآلات والأنابيب على مرأى من عينيّ، أتأمل البياض وهو يسيج كل جسدي…
٭ قاصة من المغرب
گأس تثير شهوة القراءة !
استمتعت بقراءة النص الجميل.. شكرا على الكأس المجازية التي حملتنا إلى عالم آخر..