تعبر ما يسمى بمبادرة السلام العربية الرسمية المعدلة، التي حملها وفد الجامعة العربية إلى واشنطن، عن مصالح الحكام العرب وليس مصلحة الشعب العربي بشكل عام، والشعب الفلسطيني، صاحب القضية، بشكل خاص . فهذه المبادرة تقدم مزيدا من التنازلات العربية لإسرائيل، ولكن في هذه المرة كان تنازلا خطيرا جدا، حيث يقدم لإسرائيل، إذا ما قبلتها، حلما كانت تتمناه منذ قامت، على طبق من ذهب. إعتراف عربي شبه شامل بوجودها كدولة يهودية، ودمجها في اقتصاد المنطقة العربية، وستنفذ رغبتها في تحويل اسم ‘جامعة الدول العربية’ إلى ‘جامعة الدول الشرق أوسطية’ حتى يمكن دمجها، وهذا معناه التنازل عن جميع البنود التي وضعت لتوحيد الأمة العربية في جميع المجالات، التي كانت أساسا لقيام هذه الجامعة، وغيرها من المطالب التي تمنح إسرائيل المزيد من السيطرة في المنطقة. والأمل الوحيد أمامنا هو رفض إسرائيل لهذه المبادرة العرجاء، وبالفعل أعلن بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل عن رفضه للمبادرة، كون حدود عام 1967 هي الأساس للمفاوضات ‘هآرتس’ 2/5/2013. ونقلت الصحيفة عن نتنياهو قوله ان ‘السلام الاقتصادي ليس بديلا عن السلام السياسي’. ورؤية نتنياهو للسلام السياسي أن يقبل الفلسطينيون ‘بالاعتراف بدولة إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي’. معنى ذلك أن إسرائيل تريد من الفلسطينيين، وبالتالي القيادات العربية، الاعتراف بالدولة اليهودية كوطن لليهود (وليس للإسرائيليين فقط). ويعرف نتنياهو أن كلامه هذا بمثابة معجزة يضعها في طريق أي تحرك للسلام. وقد لاحظت ذلك صحيفة ‘هآرتس’ (3/5/2013) فقالت في افتتاحيتها، ان موقف نتنياهو إزاء المبادرة العربية المعدلة يعزز صورة إسرائيل كرافضة للسلام. وبناء على ذلك، تضيف الافتتاحية ‘فإن هذه الحكومة باتت تشكل أيضا خطرا على مواطني دولة إسرائيل’. وبالفعل بدأ التحرك الأمريكي في تبني فكرة الدولة اليهودية، فحسب ما نشرته صحيفة ‘معاريف’ 6/5/2013، فان أمريكا تقدمت بمبادرة وجهتها لإسرائيل تقول ‘جامعة الدول العربية ستعترف بإسرائيل كدولة يهودية’. لقد أصبح وزير الخارجية الأمريكية جون كيري، المتحدث الرسمي باسم الجامعة العربية، ولا يمكن أن يكون تحرك كيري بدون موافقة بعض الدول العربية، كل ذلك من أجل العودة للمفاوضات فقط. فالمشكلة إذن بالنسبة لإسرائيل هي ‘الوطن القومي’ وليس ‘الدولة’. والواقع أن هذا نفس البُعد للفلسطينيين، إنهم يريدون اقامة دولة على أرض وطنهم، ففلسطين هي وطن بالنسبة لهم (إذا سألت طفلا ولد في مخيم اللاجئين من أين أنت يقول على الفور انه من يافا أو اللد أو المجدل، في حين أن والده لم ير هذه المدن، ولكنه ينتمي إليها روحيا). فالوطن حالة حب بين الإنسان وعقله وقلبه وحواسه وأرضه، وأي حل لا يأخذ هذه العناصر في حسابه سيولد ميتا. فمعالجة القضية الفلسطينية على أساس أنها دولة، من دون الأخذ بعين الاعتراف البُعد الوطني القومي خطأ جسيم. والتاريخ العالمي حافل بحروب بين الدول بسبب حدود وأرض الوطن (جزء منها لا يزال قائما حتى يومنا هذا). فالدولة مشروع يتلاعب فيه حسب المصالح السياسية والاقتصادية. والفرق بين الدولة والوطن يحتاج إلى مزيد من الشرح، ربما بمقال منفصل . لقد قبلت السلطة الفلسطينية إقامة دولة فلسطينية على 20 بالمئة من أرض الوطن الفلسطيني، على أمل أن يتطور الوضع وتقوم دولة واحدة يستطيع من خلالها الفلسطيني أن يسكن على أية قطعة من أرض وطنه. ولكن إسرائيل واعية لذلك ولن تفسح المجال للفلسطينيين بتحقيق هذا الهدف. وتصرفات الجامعة العربية في هذا المجال هي كارثة، فقد فرطت بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني بشكل غير قانوني وغير شرعي. وقد استغلت بعض الدول المسيطرة على الجامعة العربية حالة الفوضى التي تمر بها الأمة العربية في كثير من أقاليمها، لتنفيذ إرادة أجنبية تخدم مصالح أجنبية إلى جانب مصلحة إسرائيل. فمثلا لم نسمع عن وجود دراسة وافيه للأسباب الحقيقية وراء فشل المبادرة العربية الأولى، التي قبلتها الدول العربية في مؤتمر القمة في بيروت عام 2002، لتحل مكانها مبادرة معدلة، ولا أعتقد أن التعديل سيحصل على إجماع عربي (ليس كل الدول العربية ممثلة في الجامعة العربية الآن، وسورية مثال)، كما حصل بالنسبة للمبادرة الأولى، التي اعتبرها الحكام العرب في حينه ‘آخر تنازل يمكن تقديمه’. لقد رفضت إسرائيل المبادرة الأولى ورفضت الثانية وسترفض كل مبادرة قادمة لا تعترف بالوطن اليهودي. لقد كانت مهمة وفد الجامعة العربية الذي جاء إلى العاصمة الأمريكية، كما نشر في وسائل الاعلام، حشد الضغط والتأييد لوقف الاستيطان اليهودي على أراضي الضفة الغربية وقبول إسرائيل ببدء المفاوضات مع الفلسطينيين حسب حدود 1967 . ولكن الأمور تغيرت كليا عندما دخل الوفد العربي إلى ‘بلير هوس’ ( بيت الضيافة الأمريكية) وقدم ما يسمى بالمبادرة المعدلة. ويبدو أن هذا التحول العربي جاء نزولا عند رغبة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، حيث تعهد بأن تبدأ المباحثات حسب حدود 1967، مما أدى إلى قيام نتنياهو بإرسال وزيرة العدل والمسؤولة عن المفاوضات مع الفلسطينيين، تسيبي ليفني ومستشاره السياسي إسحاق مالوخي إلى واشنطن لعرض الموقف الإسرائيلي الرافض. لا يحق لجامعة الدول العربية أن تقدم اية تنازلات باسم الشعب الفلسطيني، هذه الجامعة التي لم تقم بواجبها عندما قامت إسرائيل، ولا تزال، بارتكاب مجازر ضدّ الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية ومخيمات اللاجئين، بل إنها لم تستطع أن تجبر بعض الدول العربية الأعضاء بعدم مساعدة إسرائيل في حربها المجرمة ضدّ الشعب في غزة، ووقفت محايدة وكأن الأمر لا يهمها. وبتحركها هذا تكون الدول العربية المشاركة الآن قد قدمت لإسرائيل ‘وعد بلفور’ جديدا. إن ردود فعل أبناء الشعب العربي، كما تظهر في الصحف والفضائيات والشوارع العربية ترفض تصرفات الجامعة العربية وتعتبرها كارثة على الوطن العربي والأمة العربية. ‘ كاتب فلسطيني
التاريخ لا يدخله الجبناء