كارين. م. ماكمنوس بين تقنيات الاتهام وآليات الدفاع

لا تختلف الرواية الثالثة «اثنان يمكنهما كتمان السر» الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، للروائية الأمريكية كارين. م. ماكمنوس، عن روايتيها: الأولى «أحدنا يكذب» والثانية «أحدنا هو التالي» من حيث بوليسيتها. وهي تتقاطع مع الثانية في أن الأحداث تدور في مدرسة ثانوية، وفي أن معظم شخوصها من الطلاب. وهي، كغيرها من الروايات البوليسية، تقوم على ثلاثية: الجريمة، والمحقق، والمجرم. وتنتظمها سلسلة من الأحداث المشوقة التي تتم في مخاضٍ عسيرٍ من البحث، والتقصي، والتحقيق. وتتمخض عن جلاء الغموض، وتحديد المجرم، وتحقيق العدالة.

البداية الفعلية

تدور أحداث الرواية في ثانوية إيكو ردج في ولاية فيرمونت الأمريكية. وتبدأ، من الناحية النصية، بقيام الجدة نانا وجارتها ميلاني كيلدوف باستقبال الحفيدين إليري وعزرا كوركودان، القادمين من ولاية كاليفورنيا، للدراسة في ثانوية إيكو ردج، حيث تقيم الجدة. غير أن البداية الفعلية للأحداث تكمن في عثورهم، خلال القيادة ليلاً، في طقس عاصف على المدرس جايسون بومان، في منتصف الطريق، وقد صدمته سيارة مجهولة وفارق الحياة. فتشكل هذه الجريمة، معطوفة على حادثة اختفاء الخالة ساري كوركودان منذ ثلاثة وعشرين عاماً، وجريمة قتل الطالبة لاسي كيلدوف ابنة الجارة ميلاني منذ خمس سنوات، وجريمة قتل الطالبة بروك بينيت بعد أيام، وجميعهن درسن في الثانوية نفسها، بداية لسلسلة من الأحداث الغامضة. على أن ما يجمع بين الجرائم الثلاث هو أن ضحاياها هن من الطالبات اللوتي انتُخبن ملكات حفل العودة إلى الثانوية، وأن المجرم مهووس بإقامة علاقة مع الطالبة الملكة تنتهي بالتخلص منها.
تنخرط البطلة إليري في محاولة البحث عن الحقيقة، يحدوها عقلٌ شكاك مولع بقراءة كتب الجريمة، من جهة، ورغبة مزمنة في معرفة مصير خالتها ساري التي اختفت منذ ثلاثة وعشرين عاماً، من جهة ثانية. وتتكامل محاولتها هذه مع التحقيقات التي تقوم بها الشرطة المحلية، وتتقاطع معها، ما يؤدي إلى اكتشاف القاتل الحقيقي في نهاية المطاف. وهكذا، تتضافر الجهود الخاصة والعامة في جلاء الغموض المحيط بالجرائم الأربع، واكتشاف المجرم وإنزال العقاب به.

تقنيات الاتهام

تسند الكاتبة إلى إليري دور البطولة، وتعهد إليها برواية إحدى وعشرين وحدة سردية من أصل ثمانٍ وثلاثين وحدة سردية، أي ما نسبته 55% من الرواية، في ما تعهد إلى مالكولم كيلي، الشريك في البطولة، برواية سبع عشرة وحدة سردية، أي ما نسبته 45% منها. وانطلاقاً من هذا الدور، تقوم إليري بمساعدة مالكولم وآخرين، بممارسة مجموعة من التقنيات. يكون بينها: زيارة موقع الجريمة، جمع المعلومات، إجراء المقابلات، طرح الأسئلة، استقصاء الإفادات، اقتفاء الأثر، البحث عن مستندات، قراءة الصور، توثيق البحث، استطلاع الآراء، تحليل المعلومات، الربط في ما بينها، الوصول إلى خلاصات معينة، وسواها. وخلال هذه العمليات، وانطلاقاً منها، تشتبه إليري بكثيرين من المرتبطين بالضحايا، بعلاقة أو بأخرى. وتُسقط الشبهة عنهم تباعاً إلى أن تحصرها في عدد قليل منهم، بينهم المجرم الحقيقي. وهي في عملها هذا لا تتورع عن الشك في أقرب المقربين إليها، بمن فيهم أمها التي تخضع للعلاج من الإدمان، في مركز إعادة تأهيل في كاليفورنيا.

كارين. م. ماكمنوس

المشتبه فيهم

في حادثة اختفاء الخالة ساري التي حصلت منذ ثلاثة وعشرين عاماً، لم تكن الأم ترغب في إثارة الموضوع، ولم تكن تجيب عن أسئلة ولديها حوله، وكان لديها ما تخفيه بشأنه، ما جعل إليري تشتبه فيها، حتى إذا ما اعترفت الأم، ذات حوار، أنها، في الليلة التي اختفت فيها أختها، كانت تفقد عذريتها مع أحد زملائها فانس باكيت، تسقط الشبهة عنها. في جريمة قتل الطالبة لاسي ميلدوف التي حصلت منذ خمس سنوات، تشتبه البلدة بديكلان كيلي حبيبها الذي كانت تعتري علاقته بها شجارات تندلع بين حين وآخر، ما يجعله يغادر إلى بلدة بروسبرغ المجاورة. وتشتبه إليري، خلال محاولتها، في آخرين. يكون بينهم: الشرطي رايان رودريغيز، زميل الدراسة، الذي يظهر في صورة مدرسية محدقاً في لاسي، بطريقة مثيرة للاشتباه. وديزي صديقة لاسي التي أحبت ديكلان في حينه، وتزوره حاليا في شقته، بين فينة وأخرى. وكايل مكنولتي الذي هجر ديكلان أخته ليز ليحب لاسي. غير أن التقنيات التي تعتمدها إليري في تحقيقها تسقط الشبهة عن معظم المشتبه فيهم، باستثناء الحبيب ديكلان، رغم أن التحقيق معه، في حينه، لم يثبت عليه شيئاً. ولعل وجوده في البلدة، بالتزامن مع اختفاء الطالبة بروك بينيت، جاء ليعزز الاشتباه فيه.
في جريمة قتل الطالبة بروك، الثالثة والأخيرة، تشتبه إليري بديكلان كيلي، وكايل مكنولتي، ومالكولم كيلي، شقيق ديكلان وصديقها، الذي يشاركها دور البطولة وعملية رواية الأحداث، لأسبابٍ مختلفة. غير أن عثورها على إيصال تصليح سيارة الطالبة كاترين نيلسون ابنة بيتر نيلسون، النافذ المالي والسياسي في البلدة، مذيلاً بتوقيع صديقتها بروك، التي تربطها بها علاقة التابع بمتبوعه، يقود مجرى التحقيق باتجاه آخر، فتكتشف، بمساعدة مالكولم وآخرين، أن بيتر نيلسون زوج أم مالكولم، هو الذي صدم المدرس جايسون بومان، وأنه قد يكون وراء الجرائم الأخرى المرتكبة، حتى إذا ما أحس الأخير بوضعه في دائرة الاتهام، قام بشهر بندقيته في وجه مالكولم وإليري اللذين كانا يقومان بتحليل المعلومات المؤدية إلى اتهامه، واحتجازهما في قبو منزله مشغلاً المحرك الكهربائي ليموتا اختناقاً، قبل مغادرته المنزل هارباً إلى كندا، يثبت التهمة على نفسه. غير أن مداهمة الشرطي رايان رودريغيز المنزل، قبل فوات الأوان، والقبض على بيتر خلال محاولته الهرب، يرسم للرواية نهاية مغايرة، فتنجو إليري ورفيقها مالكولم من موت محقق، ويتم القبض على المجرم وإيداعه السجن. وبذلك، تظهر الحقيقة، وتسقط الشبهة عن كل الآخرين.

آليات الدفاع

إلى البراعة التي تبديها ماكمنوس في تفكيك الجرائم المرتكبة، من خلال الدور الذي تسنده إلى راويتها إليري وراويها الآخر مالكولم، في البحث والتقصي والمغامرة، ما يقود التحقيق إلى خواتيمه المنشودة، فإنها تبدي براعة مماثلة في تفكيك آليات المجرم في صرف الأنظار عنه، وتضليل التحقيق، من قبيل: تنظيم حملات البحث عن المختفي، التبرع السخي على اسمه، تزوير الانتخابات الطلابية، طلاء الجدران بتهديدات غامضة، تخريب خزائن الطالبات الملكات، وضع أدلة حسية في موقع الجريمة تعود لشخص آخر، لتوجيه أصابع الاتهام إليه، إرسال رسائل التهديد إلى أشخاص بعينهم، وسواها من الآليات التي تتكشف عن مجرم محترف يقوم بعمله بدم بارد، دون أن يخشى افتضاح أمره.

فجوات صغيرة

وفي سياق هذا التفكيك المزدوج لتقنيات الاتهام وآليات الدفاع، تحشد ماكمنوس كماً كبيراً من الوقائع الدالة في روايتها. لكل واقعة منها دورها الذي قد لا يظهر حالاً، في توجيه التحقيق، بل لاحقاً، من خلال ربط الوقائع بعضها ببعض، والمقارنة في ما بينها. وبالتالي، ليس ثمة من وقائع مجانية في النص. وليس فيه من الحشو ما يمكن الاستغناء عنه، بل نحن إزاء نص متماسك من بدايته حتى النهاية. لكل قطعة فيه موقعها ودورها في «البازل» الروائي. وعلى الرغم من ذلك، ثمة فجواتٌ لا تردمها الرواية، وأسئلة لا تجيب عنها. فنحن لا نعرف كيف اختفت الخالة ساري. ولا نعرف كيف اختُطفت بروك بعد وصولها إلى منزل ذويها. ولا نعرف سبب وضع إيصال السيارة الذي شكل رأس خيط لاكتشاف الحقيقة في أحد أدراج القبو، على سبيل المثال لا الحصر. فهل تشكل هذه الفجوات، على صغرها، فجوة في النص الروائي؟ أم أن الكاتبة تعمدت إبقاءها لتطلق لمخيلاتنا العنان؟ الإجابة عن مثل هذه السؤال قد تحتاج إلى قراءة ثانية للرواية.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية