حقق ظهور الفنان كاظم الساهر الأخير مع الصحافية منى الشاذلي انتشارا واسعا، لكن ما يثير الدهشة رغم عدم تسجيل أيّ توقّف عنده هو سؤال المذيعة: «الحب عند كاظم الساهر بالقلب أم بالعقل؟» وإجابة الساهر قائلا: «للأسف جبناها بحياتنا في القلب. هو حقيقة يعني نصيحة للشباب طالما فتحت هذا الموضوع نصيحة أنو الإنسان يجب أن يفكر ويفكر لمدى بعيد إيش راح يكون. العقل أفضل من القلب». لتعلّق الشاذلي على إجابته: «حب العقل». اللغز هنا إذن والدهشة أيضا هنا، كيف لفنان غنّى «ريبيرتوار» ثريا جدا طيلة مسيرته للحب والجنون والعشق المطلق والتخلص من العُقَد والانفعال والانفجار وفكّ الأغلال، أن يدعو لتحكيم العقل لما يتعلق الأمر بالاختيار بين العقل والقلب، وهو الذي كسّر الدنيا بقصيدة نزار قباني «اختاري الحب أو اللاحب» وقد تؤكد إجابة المطرب العراقي الشهير مقولة العرب «أعذب الشعر أكذبه» بمعنى أن الساهر الذي لا يسهر – حسبه – يغنّي أعذب الكلمات والأشعار والقصائد، لكنها مجرد كلام جميل منسجم ضمن السجع والجناس والكناية والاستعارة وغيرها من القواعد البلاغية التي تجعل منها رنانة تصل إلى القارئ أو المستمع بأسلوب جذاب ومقنع.
إجابة فنان بحجم كاظم الساهر لا يمكننا أن نعتبرها مجرّد إجابة تمر مرور الكرام دون أن تترك أثرا ما على المتابع الجيد للمقابلة، أولا بالنظر إلى قيمة السؤال في حد ذاته لأنه يختزل قيمة ما قدمه الساهر في مشواره، كما يمثل وزن هذه الحصة المخصصة لكاظم صاحب الأغاني الحساسة والرومانسية. لما نضع «مطرب القلب» أمام الاختيار بين القلب والعقل فهذا يعني أن مسيرته ورسالته الفنية موضوعة في الميزان، وبالتالي نترقب إلى أين ترجّح الكفة، وإذا بفنان الحب والجنون يختار العقل، وهنا يتساءل المتلقي مثلا كيف يمكن إقناع مراهق ومراهقة يسمعان أغنية الساهر «قولي، انفعلي، انفجري، لا تقفي كالمسمار» بالانصياع وراء مشاعرهما وحبهما بكل عفوية وصدق، وصاحبها ينصحهما صراحة بالتفكير والتفكير في المدى البعيد، فالأمر إذن لا يتعلق بمجرد إجابة، إنها فلسفة حياة تربى عليها كل عاشق لكاظم، وسيتأثر بها من سيسمعها مستقبلا، ولو بعد عشرات السنين. وعلى هذا المنوال، قد يتساءل كثُرٌ من المتابعين للقاء الصحافي، لو سئلت مثلا الفنانة الفرنسية -الإيطالية الشهيرة داليدا، هذا السؤال كيف ستجيب، وهي التي قالت «أعشق خشبة المسرح وأريد أن أموت عليها، أنا التي اخترت كل ما في حياتي، أريد اختيار موتي أيضاً» وفي يوم 3 مايو/أيار 1987 انتحرت لتضع حدا لحياتها، فهنا إذن تسقط مقولة «أعذب الشعر أكذبه» لأنها تعني كل كلمة قالتها وغنتها وعاشت بها فعلا واقعها، وليست مجرد كلمات مرتبة لإحداث الإيقاع وترتيب النوتات الموسيقية للحصول على أجمل لحن يطرب آذان المستمعين. الأمر إذن ليس شعرا ولا نثرا يتم تنظيمه، إنه مسؤولية كبيرة يتحملها كاتبه ومغنيه ومؤديه، ما دام القارئ أو المستمع أو المشاهد يتأثر بما يتلقاه، فعلاقة المشاهير والجماهير قوية جدا. من منا لم يشاهد الفيلم الهندي المنتج عام 2016 للنجم شاه روخان «المعجب «FAN الذي كانت نهايته مأساوية بسبب تجاهل البطل المشهور لمعجبيه، لذلك فهذه العلاقة بين المشاهير والمعجبين ليست عبثية بل فيها مسؤولية كبيرة، ينبغي على أصحاب الشهرة أن يكونوا واعين بها، وليس من حقهم ضرب عرض الحائط أي تفاصيل صغيرة من شأنها أن تُشعر الجماهير بأنهم مستغلون، فتصوّروا كيف يمكن لإجابة الساهر أن تؤثر، كي لا نقول تصدم شخصا مثلا أحب بقلبه إلى حد التطرف، وكانت أغانيه دعما له في قراره لأنه استند إليها وتشجَع بها لأنها تحمّسه وتمنحه الشجاعة ليختار ويقول وينفجر في سبيل الحب لا غير، سيقول كم كنت غبيا لأنني لم أحكّم العقل، فمغني الأغنية لم يكن يعي ما كان يغنّي، بل أداها شعرا عذبا وليس أكثر.
أشارت الإحصائيات المتناقلة عبر وسائل الإعلام إلى أن لقاء النجم العراقي مع منى الشاذلي حقق انتشارا واسعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث سجل في يوم واحد فقط 24 مليون مشاهدة على فيسبوك، و3 ملايين مشاهدة على إنستغرام، و2 مليون مشاهدة على تيك توك، ولكم أن تتصوروا حجم تأثير كل كلمة قالها على الجماهير، لاسيما في عصر التفاعلية التي يحظى بها المتلقي، فالرسالة الإعلامية لم تعد كما السابق، من لم يتابع اللقاء على المباشر فاته، الآن اختلف الأمر وانقلبت المعادلة، وحسب الأكاديمي الجزائري وأستاذ علوم الإعلام والاتصال في جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان عبد الوهاب بوخنوفة، فالخبر الذي كان يلد ليموت، اليوم للخبر حيوات عديدة وولادات متنوعة بتنوع المواقع المتناقلة له والمشاركات والتفاعل والاشتراك، بمعنى أن كلام الساهر ينتشر في ثانية آلاف المرات، وبالتالي كلامه سيؤثر كثيرا، وعزاؤنا أن لا تقف الجماهير على حجم إجابته هذه، التي اختار من خلالها العقل على القلب، وكيف نسمع «زيديني عشقا زيديني يا أحلى نوبات جنوني» بعقولنا ونتجاهل قلوبنا؟
إن كاظم الساهر رفيق القلوب الرهيفة العاشقة المجنونة التي تنصاع انصياعا بعيون مغمضة اتجاه الحبيب بلا أسئلة ولا أجوبة، إنها تنساب انسياب خطوط الحرير، أو خصلات الشعر المصفوف المطلق لمغازلة الرياح، على مطرب المرأة أن يعرف أنه ليس مجرد فنان يغني أغاني الحب إنه «روح الحب المطلق» في عيون عشاقه، فهو فتى أحلام العديد من الفتيات حتى في هذا العصر المتسم بالسيولة وثقافة التسطيح والتبسيط، فالقلوب العاشقة متعلقة دائما بما هو راق، وقصائد كاظم أكثر من راقية، لاسيما إذا تحدثنا عن تلك التي أداها لشاعر المرأة نزار قباني، من أمثال «الحب المستحيل، مدرسة الحب، أكرهها، ممنوعة أنت، يوميات رجل مهزوم» هل كان نزار يوصي وينصح بتفضيل العقل على القلب؟ هذا مستبعد حقا. كيف وهو الذي عشق بلقيس بجنون من أول نظرة حين كان في مهرجان في بغداد في 1962 وكانت حاضرة، ولما تقدم لخطبتها رفض والدها، لكنه لم يستسلم ولم يحكّم عقله لينقذ كبرياءه، فليس سهلا أن يُرفض شخص مثل نزار من والد فتاة مهما كان أصلها وفصلها، إنه ببساطة لا يُرفض، ورغم ذلك بقي نزار متعلّقا بها يتبادل معها الرسائل، وبعد سنوات ولما سمع بالقصة الرئيس العراقي آنذاك أحمد حسن البكر، أرسل وزير الشباب حينها الشاعر شفيق الكمالي ووكيل وزارة الخارجية ومجموعة من شعراء العراق، لخطبة بلقيس لنزار من أبيها الذي وافق أخيرا، فأقيم زواجهما في 1969، ومنذ ذلك الوقت، عاش نزار وبلقيس حبا مثاليا، ونظم قصائد شعرية قوية قوة حبهما، ولما غناها الساهر لم ينقص منها شيئا، بل منحها روحا جديدة تُشعر المستمع إليها بواجب تقديس الحب، فصعب الاستماع لكلمات قصيدة «كل العشق» التي نجد فيها «جنون الحب، أحلى جنون، أحلى جنون» ونسبّق العقل ونحكّمه، والشيء ذاته حين يتم التنصت لكلمات أغنية كتاب الحب التي تقول «يا ربُ قلبي لم يعد كافيا لأن من أحبها تعادلُ الدنيا. حُبُكِ يا عميقةَ العينين تطرفٌ، تصوفٌ، عبادة. حُبُكِ مثلُ الموتِ والولادة. صعبٌ بأن يُعادَ مرتين». وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى النجاح الكبير الذي حققه مسلسل «مدرسة الحب» بسبب ارتباطه باسم الشاعر الكبير نزار قباني والمطرب كاظم الساهر، وهذا دليل قاطع على المكانة الكبيرة التي يمثلها هذان العملاقان بالنسبة للجماهير، التي تفضل الرومانسية كأسلوب حياة رغم ما يحاول المجتمع فرضه.و قد كانت القصيدة عند نزار قباني تمثل هما من هموم الشعب، حيث يقول شعرا ليثور على قضية ما، وكان يدعو الشعراء للتفاعل مع قضايا المجتمع، وأن تطابق أقوالهم أفعالهم، وقال في هذا: «أنا لا أفهم كيف يمكن لشاعر أن يتحدث عن المثل العليا ولا يطبقها، وأن يتغنى بالجمال ونفسه مسكونة بالبشاعة». وإذا وقفنا على هذا القول لنزار، ندرك أن نصيحة كاظم للشباب بتحكيم العقل في اختيارهم بين الحب والعقل لن تقنع شاعر المرأة الثائر على العادات والتقاليد فقط لفتح المجال واسعا للعيش دون عُقَد.
كاتبة من الجزائر
حملتي الكلمة اكثر مما تحتمل، فهي ليست عقل او قلب، هي حالة وجدانية فقد يكون اكثر الناس عقلانية في لحظة وجدانية يستسلم لطوفان الاشتياق والمشاعر القلبية. كاظم الان في مرحلة سنية مختلفة وكان حواره جدا صريح وراق
اتساءل واستغرب من تساؤل واستغراب الكاتبة العزيزة.. فما الذي يمنع كاظم الساهر ان يطلب من الشباب تغليب العقل على القلب في حلّ الامور (العملية) التي تتعلق بحياتهم ومستقبلهم؟ ليس هناك ضير في ان نطير عاليا بخيالنا، ولكن علينا ان نكون حذرين ونحن نتسلق الجبل… تحياتنا للكاتبة العزيزة واعجابنا بما كتبت.
أعترف وأقر على الملأ والعلن بأن صوت كاظم الساهر لا يعجبني ولا يروق لي على الأطلاق فهو يفتقر كليا إلى الإبداع الغنائي الحقيقي
تغليب العقل لا يعني الغاء القلب المسالة هنا ضمن المفهوم التكاملي لضرورة واقعيه الحياة التي لا تلغي العشق والرومانسية