كانت إلي جانبي

حجم الخط
0

كانت إلي جانبي

عماد الوردانيكانت إلي جانبي كانت دارنا عامرة، تعج بالأصوات، أمي تترأس مجلس الأمداح حيث تحتشد نساء الحي لأداء طقس أسبوعي يبدأ بالوعظ والإرشاد وينتهي بالإغماءات وتمزيق الملابس وخربشات علي الوجوه. كان طقسا روحيا. أبي لا يحب هذه الطقوس لكن قوة أمي فرضت توجهها علي دارنا في كل شيء، حتي عادات أبي. ولعل أموراً كنت أجهلها جعلت دارنا عامرة. فجميع المطبات التي تقع فيها نساء الحي ورجالاته تحل بدارنا.في السابعة عشرة من عمري كنت بالكاد أجاهد من أجل شهادة نهاية السنة، حتي أرحل. ولأني آخر عنقود الفراش، سمحت لي أمي أن أراقب طقسها الأسبوعي إيماء. نساء عريضات مثل الفيَلة يحملن دفوفا، يضعنها فوق المجامير لتصبح أشد صلابة مثل قلب أمي. يتجمهرن في فناء الدار العتيق، ويفترشن الزرابي ويتكئن علي سرر مرفوعة مصنوعة لهذا الغرض. يدشن الطقس بخطبة تستعيد الأم فيها زمنها الأول، حينما كانت أمنا الكبيرة تعشق الله حبا وليس خوفا. وتشجع علي الخشوع والانتقال بالروح إلي زمنها الحقيقي زمن الجذبة. لحظة يسرع الجميع إلي التهليل والاصفرار والحشرجات ثم العويل، بعدها بقليل تنساب دقات الدفوف لتحمس المجلس، مجلس الأرواح الثائرة.الخميس مقدس.. يحرم علي أبي والذكور من إخوتي ولوج الدار حتي ساعات متأخرة، حينما تصبح أمي ورفيقاتها مثل نسمة ريح عارضة، فقط رائحة البخور وأنين متقطع يتصاعد ويخبو. يومها لا تتكلم. أعيرها مصريتي كالعادة، وأسترق السمع والنظر، فلا أري بينما تصل أذني زفرات مبحوحة وغمغمات مفجعة. لا أحد يستطيع خرق مجاهلها.. أنا لا أنام تلك الليلة.. تنتابني أسئلة كثيرة، لماذا أمي تقوم بهذا الطقس؟ لماذا يظل صوتها شاحبا ليلة كاملة؟ لماذا يعذبها الله؟ ألأنها تتظاهر بحبها له كأمنا الكبيرة التي ما زالت بركتها في مصريتي، مصريتها؟ كل سؤال تتناسل منه متاهة أسئلة، أتوه في دروبها المعتمة، أنادي أسترشد بخطايا. فلا صوتي ولا صوت الآخرين، وحدها تلك الغمغمات تسكنني، فأبدو مثل سؤال أضاع علامة هدايته.سألت أبي فقال: لا تعبأ يا بني، فالطريق صعبة، وسألت دربنا فقال: أمك صالحة، وهذه وسوسة الشيطان، سألت فقيه المسجد صبيحتها فقال: بدع وكل بدعة في النار، سألت أستاذي فاكتفي بالتشدق والسخرية، فلم أفهم. لكن أمي لا تبيع جسدها أو تشتري أعراض الناس بآيات قليلة..كل اللاءات لم تقنعك بما يقع. فأزحت همومي. وتحمست لمجلس أمي وباركته، خصوصا أن شوق بنت جارتنا تواظب الحضور، وحينما تختنق تتسلل من المجلس خفية وتجالسني فوق. نضع رأسا لرأس ونشاهد ما نشاهد. وينقبض قلبها ثم يرتجف، فأحميها من الخوف الذي يعمني. أمسح دمعتها التي لا أقدر عليها، فأمي تقول دائما إن الرجال لا يبكون . كان بكائي داخليا، وشوق تخرجه بصمت ودون مواربة.. تجترح أنفاسي فأكاد أتقيأ لكن شوق تؤجل كل شيء. أحببت يوم الخميس لأن شوق تكون إلي جانبي، بعد بكاء خفيف تصعد إلي مصريتي، تلك الحجرة المباركة كما تقول دائما أمي، لأن أمنا الكبيرة اختارت أن تنام نومتها الأخيرة هناك. لهذا لا ندخل المصرية إلا علي طهارة الروح. وشوق طاهرة، لكن شطحاتي الكثيرة، كانت تدفعني إلي مرافقة شوق إلي مكان القداسة لأمسح دموعها وأخفف بعضا من هواجسها فنصنع قداستنا ونموت إلي حين..لم أكن لأعي ما تفعله الجذبات بنا، فالجسد تحرر وتخلص من أدرانه..لكن أمي القوية استوعبت ما يخامرني، فأنهت أسئلتي قبل أن تولد، وبعثتني إلي شيخ طريقتها كي يباركني ويغسل الأشواق من قلبي، فكان ما كان.. وظلت شوق إلي جانبي ردحا من الزمن، وكأن طقوس المباركة مجرد بدايات لشوق أكبر، تعرفت في هذا الزمن علي نفسي وعلي مصائر مجهولة كانت تجتذبني إليها، واهتديت إلي سؤال النهاية، فكانت جذبة شوق وأسئلتها أشد صلابة من قلب أمي.ہ كاتب من مصرQSR0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية