يقول الشاعر الفرنسي بوالو دييريو في إحدى نصائحه الذهبية الواردة في ديوانه الشهير «فن الشعر»: «أعيدوا نسيجكم عشرين مرة/ اعكفوا على صقله وتهذيبه/ زيدوا عليه واشطبوا كثيراً/ فليأخذ كل شيء مكانه الصحيح/ لينسجم أوله مع آخره/ ليتناغم الكل في وحدة دقيقة».
ربما احتاج المبدعون كافة إلى تمثل هذه الأبيات، والعمل بها، مفاتيح للمهارة والحذق. لكن الشعراء، تحديداً، هم أكثر الناس احتياجاً إليها، لكي تكتمل القصيدة، وتأخذ مكاناً، ومكانة مستحقة في مدونة الشعر الحقيقي. وهذا الامتثال هو ما لمسته فور انتهائي من قراءة الديوان الأخير للشاعر جمال القصاص «كانت هنا موسيقى». عمل مبهر إذا حق لنا القول، وابتعدنا عن برودة الكلمات، والموضوعية الفاترة التي تخشى تغليب الذائقة على القراءة النقدية المتربصة، فأحياناً ما أكتب بِنيَّة مشاركة القارئ عملاً أحببته، وترك لديَّ أثراً لن يزول بسهولة، فأنا مع يوري لوتمان دائماً، الذي يعتبر معيار التقييم هو الدلالة الجمالية في المقام الأول، دون إهدارٍ للسياق الفني والتاريخي الكامن فيهما. فكم من أعمال تم تجاهلها، وضاعت بين زحام العادي، والزائف، والرديء الذي يجد من يؤازره، ويضعه في المقدمة من خلال الإلحاح المتواصل.
جمال القصاص أحد شعراء جيل السبعينيات الذهبي، وأحد المؤسسين لجماعة «إضاءة 77»، الذين حملوا على عاتقهم عبء تطوير القصيدة العربية تحت راية الحداثة، ومعهم بالطبع رفاقهم من شعراء جماعة «أصوات» والدفع بها لاقتراح موضوعات أخرى لم تُطرق من قبل، بعيداً عن شعرية الإنشاد، متجهين نحو شعرية الكتابة، والقول الداخلي الذي يغني بنية النص.
ربما لم يكن هو الأعلى صوتاً، وقتها، بين أبناء هذا الجيل اللامع، لكنه كان الأكثر هدوءاً، والأقل صخباً بين مجموعة من محطمي الآلهة، ومزعجي اليقينيات الشعرية المستقرة. فقد كان يغزل برقة، على نحو صبور، نائياً عن مشاغبات رفاقه، وصداماتهم مع الأجيال الأخرى. تمرده كان على ذاته، تمرد فني، غير فوضوي، بما يتوافق مع طبيعته، وتكوينه النفسي، كانت قصيدته تنضج على مهل، ديواناً بعد آخر.
وها هو بعد عقود من إدمان الشعر، وتعاطيه بشكل يومي، ما زال يهدهد، ويربت على هذا الكائن البهي، يطلب منه الأجمل، والأكثر سحراً، ما يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، ولكنه يخفي في العمق مهارة شاعر خبير بمسالك هذا الفن، ودروبه، على نحو يذكرنا أيضاً، بالشاعرين العراقيين الكبيرين: سعدي يوسف، وصلاح فائق، وهما يجربان يومياً في القصيدة على الجدار الأزرق، يحولان كل عناصر العالم إلى مادة شعرية، وعند النشر الورقي يتم انتخاب النصوص التي تستحق البقاء والصمود في وجه الزمن.
هكذا يفعل جمال القصاص، على صفحته بالفضاء الإلكتروني، وهكذا صار في المقدمة بين الشعراء. فهو لا يكف عن التجريب وكتابة الشعر، منذ بواكير شبابه، بادئاً الغواية بالشعر العمودي، المقرر دراسياً في مناهج التعليم، وهو إلى جانب ذلك ابن لشيخ أزهري، لديه مكتبة صغيرة، تحتوي على كتب التراث، ودواوين الشعر العربي القديم الذي يترك آثاره في متلقيه، ويحرك خياله، ويغريه بالمحاكاة. ثم جاءت بدايات التحرر الشعري: قصيدة التفعيلة، والاقتراب من الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، الذي كان يعمل مدرساً في مدينة كفر الشيخ خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، ويصدر منها مجلة «سنابل» الشهيرة، وهي المحافظة نفسها التي ولد فيها جمال القصاص.
في نهاية المطاف، تأتي قصيدة النثر كرهان حداثي، تقدمي، لكن القصاص يبتعد بها عن الشعارات، يترك قضايا السياسة للسياسيين. الشعر قضيته الأساس، الشعر فقط، هو ما يستوعب أفكاره، وتأملاته، تعليقاته على الحياة، غيرَ معني بالأحداث اليومية. ربما تعنيه المقولات الكبرى، لا القضايا الكبرى، يشتبك معها، سارداً بنبرة ذاتية رؤيته للوجود والعالم، متفاعلاً مع عناصر تخصه وحده، فهو خريج فلسفة، ما زال تأثير دراستها يتسلل خفية إلى نسيج بعض نصوصه، على نحو يلحظه القارئ الفطن، رغم عدم ظهورها للعلن.
«كانت هنا موسيقى»، ديوان أقرب ما يكون إلى متوالية شعرية، يحتوي على مجموعة من العناصر المتصلة التي يحكمها التناغم والوحدة.
يقول جمال القصاص:
«أيتها القصيدة
يا طفلتي النزقة
لا تغلقي عينيك
تذكري أن فوق سريرنا
تولد الحياة».
يتلذذ بالقصيدة، كأنها عشيقة ذات نزعة إيروتيكية، يبادلها الحب بعيداً عن حطام العالم. يتقاسم معها نشوته الانعزالية. يستخدم الوصف، وأدوات النداء للوصول إلى ما هو جوهري، حتى لو انتابنا شعور بأن «الأنا» غير مستبعدة، وتعلن، بقوة، عن وجودها الشعري من خلال هذه الكلمات المشحونة بالجمال المتعالي.
بالشعر، ومن خلاله، ستعلو نبرة الرثاء، تظلل كلمات الديوان، بداية من العنوان، مروراً بلواعج الذكريات والحنين، في محاولة لاستعادة فردوس الشاعر المفقود تارة بضمير المتكلم:
«أخشى من صرخة الِّلص الأعمى
من فتوى المهرج،
من بائع الروبابكيا،
أخشى من نفسي.»
وأخرى بضمير المخاطب بالمقطع عينه وكأنه في حالة مواجهة مع الذات:
«تسحب الماضي من تحت قدميكَ
تدعوه لكأسين في صحة الأثر
تتذكر أنك عشتَ مساءً مرحاً
أن نادل البار تعرَّفَ على وجهه
اصطاده من ذيل قطةٍ
لا تكفُّ عن المواء».
استعارة التاريخ الشخصي خالية من الأيديولوجيا، ذاتية إلى أقصى حد، تعمل بدقة على إثراء النص، تفعيل الأثر الإيجابي للكلمات، من دون اتخاذ مظاهر الحكمة، أو الركون إلى الانفعالات المجانية. إنه يكتب قصيدة الحالة، يلتقط تفجرها من مفردات الحياة. في تجربة جمالية، نستطيع لمس صفاتها المحسوسة، واكتشاف ما في ذهنه من حقائق وتأملات:
«نفد احتياطيُّنا العاطفي
تجمَّدتْ أرصدةُ الحنينِ
ليس بإمكاننا أن نعبرَ الشارعَ معاً
الصباحُ مشغولٌ بنفسهِ
علِقَتْ بقدميهِ شوكة فاسدةٌ
و»الآيس الكريم» لم يعد مراهقاً
يفتحُ القوسَ
يمنح الشفاهَ نشوتَهَا
والبنُ صديقنا الطيِّبُ
انطفأتْ رغوتُهُ
أصبحنا نلعقهُ على عجلٍ
كطفلين نسيا الواجب المنزليّ
ماذا سنفعل في هذا الزمن الصَّعب».
أتذكر الآن كلمات جمال القصاص في مديح الشعر: «أن تحب الشعر، أن تفني عمرك من أجل سطرين لا تعرف كيف تضعهما فوق الرف، وتنتظر بعد كل هذا العمر أن ينضج الخطأ في أوانه.. تلك هي محنة المحبة والشعر معاً».
الإخلاص للقصيدة يتبدَّى بوضوح في هذا الديوان: أن يكون الشعر جوانياً خالصاً، يمثل البحث عن ماهية الشاعر نفسه، اقتناص التأثيرات الوجدانية بعيداً عن الأفكار المبهمة. البحث الدائم عن الأشياء الرائعة، المفتقدة، محاولة إنقاذها من النسيان، تفعيل مادة الذكريات، وإعادة دمجها في تيار الحياة، بالاستخدام العميق للغة، التي تتقدم مع كل مقطع خطوة إلى الأمام:
«الذكريات يتيمة لا ترشو الليل/ لا تصمد كثيراً فوق الشجرة/ لا تملك صكوكاً للعفو أو العصيان./ علينا أن نعيدها للهفتها الأولى/ ندخلها الورشة../ ربما تحتفي بضعفها/ بخطأ لم ينضج في أوانه/ سقط مثل رفَّة شعاعٍ/ هربت في صوتك./ لا منافضَ هنا/ ولا غبار./ تركت لك حصَّة الرِّيح/ تدعي أنها تستمدُّ طاقتَهَا منكِ/ أنا أحبُّ الجغرافيا/ أحبُّ تكاثر الإوزِ/ وموسم الهجرة تحت جناحي عصفور».
نغمتان سائدتان في الديوان: الذكرى، والرثاء. يتبدى وقعهما بجلاء، تتعاقبان في معظم الفقرات، تهيمن عليهما، على نحو ما، تلك النبرة الأسيانة. صوت الشاعر الخفيض، الواهن، يكشف ألماً يحاول طوال الوقت إخفاءه، ولكننا نلمحه وهو يمرق بين الضباب، يمضي وراء ماضيه، يعود القهقرى، باحثاً عن العناصر المفتقدة، في رحلة هروب من الآني. الآني هو عناء التذكر وخلق القصيدة، ربما تستطيع الكلمة تبديد سحابة الضجر، وجلب مشاهد مُبهجة، إنقاذ الجميل من حطام الزمن، وكأن هناك قصة واقعية وراء كل مشهد:
«أتذكرُ:
كل يوم
أنتظرُ امرأةً
لا أعرف متى ستأتي
وكيف ستعبر ليلهَا العاطل
لتسأل عن أحوالي
امرأةٌ ملفوفةٌ بغبارٍ أسودَ
لا شيءَ في يدها
سوى بقع من الذكرى
ورائحةٍ كلما أغمضتُ عينيَّ تشبهني.»
في هذا الديوان، نجح جمال القصاص في خلق حالة شعرية متماسكة، مكتنزة، لا تناقض في مكوناتها، فهي تدور حول ما هو شخصي، وحميم، ذاتي جداً، سيرة اعترافية لإنسان حاول أن يبوح بآلامه، عبر صديق لن يخذله أبداً عندما يلجأ إليه، وهو الشعر.
جمال القصاص: «كانت هنا موسيقى»
دار بدائل، القاهرة 2023
203 صفحة.