يشتغل الروائي السوري عدنان فرزات على الحدث السوري، الحدث الجديد بامتياز، تأريخياً ومن ثم الجديد المفاجئ النفسي على الأقل، إذ لم يكن قبل 15/ 3/ 2011 ، من يتصور أن مواطنا سوريا يستطيع أن يجهر مع نفسه بلفظةِ: (لا) الصادمة لنظام أمني، (ممانع) طوّق منظومته الأمنية بدائرة من الشعارات (القومية) و(الوطنية).
وعليه فأن الحاضنة لمجمل الروي هي أرض سورية تنتمي إليها أي (الأرض) لغة وتقانة وأشخاصا يقتربون من الواقع كلية، هذا الاقتراب الحميم يجعل المكان بتعاضد الشخصيات معه ناطقا آخر وشاهدا حتى في غياب التسميات المؤنسنة للمكان أو بغياب المكان كاسم حقيقي، إن هذا الرهان يكسبه المنتُج بوصفه روائيا ينطِّق السرد وبوصفه إنسانا سوريا ومنطوقه الإنساني مشاهدات واستماع حثيث يربطه بالبطل المرسوم كتابة ليتحرك ويفعل وينجز منتجه رأيا وإضافة للحدث المازال مستمراً بانتهاء الرواية على الورق واستمرارها إلى حين كتابة ورقة نقدية عنها.
في عمله الجديد ‘كان الرئيس صديقي’ تتعالق الأحداث وتتصارع بصراع الشخصيات تماما كما على الأرض إلا أن المكشوف أو الذي يفتحه الروائي الممسك بخيوط مسانديه في عمله هو على الأقل هنا يعطي المخيال فرصة للتنحي عن الحقيقي أو ربما الذي يمكن أن يدخل في حيز الأحلام والتمنيات والطموحات فيما ستؤول إليه الأمور، وبذلك يتم الدخول على النفس، تلك الحوارية التي تتم في مطبخ الشخصية نفسها قبل أن تكون شخصية تتكون بالتزاماتها تجاه الآخر زمانا ومكاناً، مايعطي المتلقي انطباعا أكيدا أن المادة الخام للحدث تختلف عن مادة الرواية ومن المعلوم أن الخام الروائي يختلف مع الخام الافتراضي أو الواقعي زمانيا في أحد أوجههِ، فالتصدي لحالة الجريان الزمني هو تحدٍ من السارد وتحد في الوقت ذاته للشخصيات (الواقعية) وبالتالي للروائية أيضاً، تلك التي لم تسمَّ حقيقيا وإنما حملت أسماءها المستعارة، ربما المستعارة جاءت من ذلك الشعور الضمني المبني على الخوف أو من سطوة حضور الرقيب الذي تثور عليه شخصيات الرواية وتثور عليه الرواية كلية مخاتلة للعنوان الضدي ،(كان الرئيس صديقي) عنوان ينماز عن التقريري لصالح المجاز في حين يمكن القول: (الثورة ضد الرئيس الصديق) أو الرئيس الذي كان صديقاً (تقريريا)، الأسماء المحمّلة بوجودها (الثقافي) جعلها في صف المعلوم وليس المبني للمجهول،وهؤلاء أشخاص فاعلون بوجوههم السافرة وبما يقدمونه من منجز هو في أحد إشاراته مساندة للسرد في سردية ثقافية تجعل من العمل برمته عملا ينحازُ لتوصيف المراكمة الحياتية ومنها الثقافية في تفتيح وجه من وجوه (الثورة السورية) كموضوع أساس وكموضوع استناد يشكل الرواية مبنى ومتناً.
يرتفع مستوى الروي من مستوى سراده الناطقين باسمه وهو هنا ينطلق من أناس مثقفين وليسوا (صغار الكسبة والفلاحين) تلك الشعارات التي حملها النظام السوري، مايعني أن الثورة الحدث كلية تحمل طابعا مغايرا للكلية الجماهيرية بمعنى الشارع وانتفاضته فالثورة التي حققت أكبر قدر من المشاركة(الشعبية) هي في أسها ترتدُّ إلى الثقافي وليست مقصوصة من شجرة في العراء، وهي الثيمة الرئيسة التي تتفاصح أو ترفع من مستوى المنطوق إذ عرفنا أن العمل يخصُّ شارعاً بمعناه الجماهيري/ الثوري.
الشخصية البطل
البطل الظاهر في الرواية ابن لبيئة عسكرية وظيفياً والتركيز على شخصية يأتي من محورية الشخصية وقيمتها بذاتها وارتداداتها المعرفية والموضوعية ‘ عميد متقاعد’ ومفردة متقاعد تحيل إلى انتهاء الصلاحية بحيث تتحول البيئة العسكرية مرتدة إلى المكان الذي انطلقت منه كبيئة مشكلة للوعي وللذات الجريحة التي تتبين فيما بعد، فالمدينة (حماة) المكان السوري الأكثر فجائعية وإحالة إلى الموت، حيث الذاكرة تعود إلى الثمانينيات من القرن العشرين، وحيث أن الصور المغيبة إعلاميا والمطموسة تحفر بعيدا في الذاكرة في حفر هو في جوهره يمس التفكير الجمعي لمجموع البشر السوريين، من المؤكد أن الشخصية الرئيسة تتناهبانها شخصيتان نفسيتان راكان الحسيني العسكري وراكان الحسيني المثقف بعلاقته بوسط ثقافي ومن ثم الروائي فيما بعد موته والصديق لشخصية عامة لابد وتوسمه بطابعها أو تهذِّب العسكري الجلف فيه، هذا النوسان بين العسكري كتكوين (شخصياتي) وبين العسكري كفعل مجازي إذ تبين الرواية أن الرضى براكان العسكري قليل أسريا يتبين من روح المعارضة في شخصية الأم، وهذا عمليا سيقود إلى حفر الرواية في شخصية المستلب والذي وقع عليه الحيف باعتبار أن الأصل (حموي) والعودة لابد وتكون بالعودة إلى نبش قبور الضحايا والنظر مليا إلى عظامهم التي أصبحت رميما لكنها أرواحهم مازالت تعيش بأجيال أخرى تتحسس الجرح وتتعالق معه في اشتباك قصدي يصل لمرحلة قتل الذات الكائنة لصالح الذات التي كانت.
الرهان الثقافي
الرهان الثقافي على البعد الثقافي للثورة والعمل على تظهير هذا البعد وكأنه فيزيائي ماثل ومحرك، يبين بدوره سلمية الثورة ومدنيتها والطموح الكبير بوطن مغاير لوطن الشعارات، هذا التظهير من السارد /الروائي للعينة التي يستثمرها توضح الجزئية التي قصدتها فيما تقدم، أن هذا الاستثمار هو مساهمة في قول يرفع عن كاهله وأقصد الراوي/ الروائي روح الثائر الجاثمة والتي صارت تتململ فوجود نورس النبهان الشخصية التي سأجي على ذكرها إلى جانب نوار البوارشي وهما صديقان للبطل سيتناوبان على البطولة في أجزاء كثيرة من حياة القص، نوار البوارشي المهندس المعماري بدلالة (العمارة) المحملة بالبناء والعطاء والتشييد والفنان عازف الكمان المتسمك بآلته في أصعب لحظات حياته حين الملاحقة والفرار وإلى وقت تصويب الرصاصة إليه وإلقائه في نهر العاصي لتغرق جثته ويبقى كمانه يطفو كدلالة أخرى على انتصار الجزء المثقف في العمل والحياة وانتصار الرموز والمثل حتى بانطفاء الذوات والشخوص.
أن رواية عدنان فرزات السوري (كان الرئيس صديقي) هي رواية ضد الصديق الرئيس، وهذه الحيثية من صداقة لم تدم طويلا تقارب الحقيقة إذا أخذنا أو تلمسنا من المسرود أن نورس النبهان هو نفسه فنان الكاريكاتير العالمي علي فرزات والذي تعرّض لاعتداء من قبل شبيحة (الرئيس) الذي كان صديقا لفترة خلت.
متعة القص وجريان الثيمات
تأتي رواية ‘كان الرئيس صديقي’ بحدث جديد وبذلك يتوفر التشويق ليس لطرافة الأحداث وإنما لاشتغال الرواية كلية على حدث كبير حتى اللحظة لامنجز تصدى لها أو تداولها، اللغة غير مفرطة في استعراض سواء كان مجانيا أو مضبوطا لخدمة الفكرة نفسها، أيضا لاتنشغل الرواية بتقانات الرواية بقدر ماتسعى إلى قول الحكاية وتحميلها بأبطالها.
الرواية تقرأ كوثيقة وكاستباق يبتعد عن الصحفية لصالح ماهو مستمر وذلك بغياب التكهنات أو بوجود الدرس الوعظي، حيث تأتي الجملة الأخيرة وكأنها فاتحة لعهد جديد وأمل آخر بسوريا أخرى، فالباب أغلق على حقبة مضت وصار التفكير بالقادم، تأتي المقولة هكذا على لسان نورس النبهان أو لنقل علي فرزات وهو يغادر مشغله: ‘إذا سألك الزائرون عني في غيابي، فقل لهم أنني سأعود’.
شاعر وناقد سوري
الكتاب : ‘كان الرئيس صديقي’ ـ رواية
المؤلف : عدنان فرزات
دار النشر : المبدأ
تاريخ الصدور: 2013