كتابة الراهن ورهان الرواية الجديدة: قراءة في ‘حي الأمريكان’ لجبور الدويهي

حجم الخط
0

مما لا شك فيه أن كتابة الراهن السياسي والاجتماعي في البلاد العربية تشكل هاجس الكتابة الروائية الجديدة في وطننا العربي. ومما لا شك فيه، أيضا، أن كتابة هذا الراهن تضع عراقيل أمام الكاتب، وتجعل الكتابة الأدبية ذاتها تحفها إشكالات قد يفلح الكاتب في تخطيها، ومن ثم يتمكن من إبداع عوالمه السردية التي تحلل هذا الواقع وتسائله وتسعى إلى فهم مغالقه. وقد لا يفلح في تجاوزها فيسقط في امتحان الإبداع، ومن ثم تصير كتابته السردية عبارة عن نقل لما يروجه الإعلام من خطب جوفاء وجعجعة إخبارية وتحليلات واهية موجهة ومغرضة. وهكذا نجد أنفسنا أمام إبداع ضحل ورؤية فنية فقيرة.
والروائي جبور الدويهي من المبدعين العرب الذين يسعون إلى جعل رهانهم الروائي الجديد رهن معالجة الواقع الآني وتفكيكه تخييليا قصد فهمه -أو محاولة فهمه- وتفسير علة ترديه. وفي هذا الأفق تأتي روايته الأخيرة ‘حي الأمريكان’ الصادرة عن دار الساقي سنة 2014. فما تجليات ‘الراهن السياسي والاجتماعي’ في رواية ‘حي الأمريكان’؟ وما سمات الكتابة الجديدة في الرواية؟ وكيف أسهمت في تشكيل عوالمها المتخيلة؟
تركز رواية ‘حي الأمريكان’ على تصوير واقع مدينة طرابلس اللبنانية من خلال بؤرة مركزية تتمثل في الحي الذي تحمل الرواية اسمه، ومن خلال شخصيات تنتمي إلى هذا الحي الشعبي وإلى أحياء أخرى في المدينة. وتتخذ من الوقائع السياسية والاجتماعية المعاصرة منطلقا لتشكيل عوالمها السردية وبناء حكايتها، وبلورة رؤيتها لما يجري في الحياة.
تبدأ الرواية برصد لحظة طريفة لا تخلو من مفارقة وسخرية، ومن تصوير سردي دال لأفعال عبد الرحمن بكري الملقب بـ’المشنوق’.. ثم تترى حكايات الحي، والبيت الذي يسكنه ‘المشنوق’ وأسرته، وحكايات الجيران الذين يقطنون البيت معه: انتصار وبلال محسن وأولادهما. وتمتد الحكاية لتشمل شخصيات أخرى عديدة وفضاءات أخرى في المدينة. وتتشكل الحكاية من خلال العودة إلى الوراء واسترجاع ماضي عدد كبير من الشخصيات: مصطفى العزام وعبد الله العزام وعبد الكريم العزام، وأم محمود وأب محمود (والدا انتصار) ومحمود وإسماعيل (ابن انتصار وبلال محسن).. وغيرها من الشخصيات التي تحفل بها الرواية. كما تتداخل أحداث تعود إلى بداية القرن العشرين (الثلاثينات) أو السبعينات منه بأحداث راهنة قريبة من زمننا (الألفية الثالثة) وما عرفته من توتر وصراع إيديولوجي، ومن تطور سياسي واجتماعي في أفق سلبي، ومن تراجع حضاري بيِّن في لبنان، خاصة، وفي الوطن العربي، عامة. كما تتعدد أمكنة الرواية بحيث نجد أحداثها تجتاز حدود لبنان (مدينة طرابلس بأحيائها وفضاءاتها) لتمتد إلى فرنسا (باريس) والعراق وغيرهما من البلاد التي تتم الإشارة إليها داخل الرواية، إما أثناء مجرى الأحداث، أو عن طريق الاسترجاع والتذكر.
تنطلق الرواية من بيت ‘المشنوق’ ومن مشهد حرصه على التلفزة المسطحة العريضة التي اشتراها من بائع ‘خردة’ وأشياء بالية، ولا يشاهد فيها سوى ألعاب المصارعة النسائية الأمريكية التي يدمنها، إلى جانب الأخبار وغيرها من الفقرات والبرامج التي تعرضها القنوات الفضائية، وبالخصوص حينما يلتحق بأبنائه أطفال انتصار وبلال محسن. وقد كان لهذا المشهد الافتتاحي دور هام في تجسيد التحولات التي أحدثها التلفزيون والقنوات الفضائية في الوضعين: الاجتماعي والسياسي، وعلى الأخص بين الفئات الشعبية المحرومة، وسيحضر تلفزيون ‘المشنوق’ برمزيته في أكثر من مشهد روائي، ومن خلاله سيطلع الأطفال والحاضرون على خبر ‘استشهاد’ إسماعيل في العراق، ومن ثم ينطلقون إلى الشوارع للتعبير عن ‘افتخارهم’ واعتزازهم ببطولة ابن حي الأمريكان إسماعيل محسن على الرغم من مطاردة الشرطة له وشكها في موته وحرصها على معرفة ما يجري بين أفراد أسرته.
من خلال هذه الإشارات نرى أن الرواية انشغلت بتحولات الطبقة الفقيرة المهمشة في المجتمع اللبناني نحو الممارسة السياسية التي فرضتها ‘الجماعات الإسلامية’ على الشباب، واتخذت وسائل شتى من أجل استقطاب بعض المنحرفين واليائسين وإغرائهم بطرق مختلفة قصد تحقيق غاياتها ‘الجهادية’ أو ما تعتبره جهادا واجبا وفرض عين لا فرض كفاية. ولعل هذا التحول بدأ مع تجربة أب إسماعيل ‘بلال محسن’ -في السبعينات- وامتد إلى تجربة إسماعيل -خلال الألفية الثالثة- التي كانت أكثر حدة ودموية، وأعمق دلالة ومغزى. وهي التجربة التي تلخص سذاجة الشباب وغياب الوعي السياسي والديني والاجتماعي، لكنها تكشف -من خلال مغامرة إسماعيل في المحمودية العراقية ومحاولة تفجيره حافلة الركاب وتراجعه عن ذلك في اللحظة الأخيرة- عن العمق الإنساني الفطري وحس الأخوة والمحبة اللذين يتغلبان على كل فكر تدميري وكل إيديولوجيا إرهابية تؤمن بقتل الآخر وتدميره على الرغم من براءته. ولعل هذا البعد الإنساني العميق في الرواية هو الذي يجلي الجانب الجديد في النظر إلى ‘قضية الإرهاب’ وكيفية معالجتها سرديا، كما يكشف عن تشكيل سردي جديد يتميز بالانسياب في عرض الأحداث والوقائع، وبالحيوية والتدفق في نقل الأحاسيس والمشاعر المتنوعة والمختلفة التي تعج بها الرواية وتخص شخصياتها العديدة المتناقضة في تفاعلها مع ما يجري حولها. يقول السارد مصورا مشاعر إسماعيل المضطربة أثناء إقدامه على مغامرة تفجير حافلة الركاب بحزامه الناسف وتراجعه عن ذلك:
‘.. بقي داخل فقاعته، لا يتسرب الوهن إلى تصميمه، لكن قبل الوصول إلى مدينة المحمودية بقليل، حيث طلب منه تفجير سترته عند توقف الحافلة في محطة الركاب التي تكون عادة مكتظة بالناس، ظهر أمامه هذا الصبي. تذكر ما قاله أمامه أحد الإخوة ان الدقائق الأخيرة هي الأصعب، فتذكر الصلاة كي تنجده، بدأ بالآية: ‘وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم..’ يتلو الآية وهو يسابق الصبي القادم من المقاعد الأمامية، يمشي في الممر وسط المسافرين، يمشي نحوه، يمشي خالعا رجله اليمنى مثل أخيه الأصغر. نظر إليه، رآه واضحا كاملا يمشي ويتمرن على الأرقام وهو يعد ركاب الحافلة، يلمس المسافر بسبابته كي يحتسبه ويكمل طريقه إلى الخلف، نحو إسماعيل، سيصل إليه وجها لوجه وسيلمسه بإصبعه. توقف إسماعيل عن الصلاة، انقطع صوته الهامس، صار تنفسه صعبا، لن يعده الصبي إلا إذا لمسه، فيكون ربما آخر راكب في تعداده. من دون أن يخطط لحركته، وعندما اقترب الصغير منه، وضع إسماعيل إبهامه على أنفه وحرك أصابعه بحركة كراكوزية يُضحك بها دائما أخيه. أراد رؤية أسنانه ليتأكد أنه لا يشبه أخاه الأصغر، أنه ليس أخاه، وعندما بانت أسنانه الناقصة أصيب إسماعيل بدوار مفاجئ، ضيق يضغط على حلقه، يخنقه. وعندما وصل الصغير إليه غرز سبابته في صدره إلى جهة القلب وهو يحصيه بالقول سبعة وثلاثين، يمطها بلهجته الغريبة، انفرج إسماعيل فرغب بشدة في تطويق الصبي بذراعيه وسؤاله عن اسمه وتقبيله طويلا في عنقه الرقيقة لولا خشيته من حركة مباغتة تفجر الحزام. انفك جسمه عن الحزام الناسف، استيقظ من داخله، صار يشعر بأعضائه تتحرك وحدها. نادت الأم: محمد. ابتعد كثيرا عنها، هي الجالسة في الصف الثاني خلف السائق. تعال، وصلنا.
ترجل إسماعيل من الحافلة في كاراج المحمودية، نزل بهدوء وانتباه، مشى وهو يقور بطنه إلى الداخل ليبعده عن الحزام، ليفصل بين جسمه والمسامير.. نزع الزنار عنه في دورة المياه، وبوَّل، كان يُخرج الماء وينظر من نافذة مربعة صغيرة خلف المرحاض إلى أفق انبسط أمامه، أرض بلا بشر تتدرج من ألوان الصحراء إلى ألوان السماء…(الرواية، ص. 129-130)
هكذا يتميز هذا المشهد السردي الطويل بالدقة في تصوير اللحظة الفارقة والخطيرة في مغامرة إسماعيل العراقية، مركزا على اللحظة الإنسانية التي يعيشها، وهو يرى صبيا صغيرا يشبه أخاه، يعد الركاب ويمشي مشية متخلعة شبيهة بمشية أخيه. وبذلك تحركت نزعات الشفقة والمحبة في دواخل إسماعيل فتراجع عن قرار نسف الحزام وقتل الصبي والركاب. والجميل في هذا المشهد السردي أن السارد وظف إمكانات فنية مختلفة قصد الوقوف على شدة الاضطراب والتوزع النفسي في اتخاذ القرار والتراجع عن الفعل التدميري لدى إسماعيل، وتصوير انتصار المحبة على الكراهة والعدوانية في أعماق هذه الشخصية الروائية التي حظيت بأهمية كبرى في التصوير الروائي. وقد تميز المشهد، كأغلبية مشاهد الرواية الكبرى، بالتشويق والقدرة على شد القارئ وحفزه على متابعة القراءة، كما تميز بالتوتر السردي والحركية التي تخلقها أساليب تعبيرية وتصويرية عديدة وظفها الكاتب.
وقد كان الروائي حريصا على جعل نصه يتميز بالتشويق عن طريق الصيغ الفنية التي أشرنا إليها، كما سعى إلى مد النص بهذه السمة عن طريق تحقيق نوع من الغموض والالتباس في الحكاية، من خلال النقلات التي يجريها بين قصص شخصياته وما تنبئ به عن طبيعة كل منها، وما تتميز به من سمات وخصائص. ويتجلى هذا البعد في العلاقة الملتبسة بين انتصار وعبد الكريم العزام، وبين هذا الأخير وإسماعيل (ابن انتصار)، وفي غموض شخصية عبد الكريم وتكتمها الشديد وانعزالها عن الواقع الخارجي المحيط بها، على الرغم من أن عبد الكريم سيؤدي دورا فعالا في آخر الرواية من خلال استقباله إسماعيل العائد من العراق وتكتمه على سر بقائه وسعيه إلى طمأنة انتصار وتأكيده لها أن إسماعيل لم يذهب ضحية الحقد الأعمى والموت المجاني في العراق.
وبهذه الكيفية تعالج الرواية ‘الواقع الراهن’ عن طريق تشكيل متخيل يتصل بالشخصيات التي أشرنا إلى بعضها، وهي تنسج علاقتها بعضها ببعض، من جهة، وبينها وبين ما يجري في الحياة من حولها، من جهة ثانية. ومن هنا، وانطلاقا من استراتيجية سردية جديدة، نرى السارد يضع، وبالتدرج، في بؤرة الأحداث شخصية من شخصياته يسلط عليها الضوء ويغوص إلى أعماقها ليكشف عن أزماتها وتطلعاتها، أفراحها وأتراحها.. ومع ذلك تمضي المحكيات مترابطة متصل بعضها ببعض دون أن يحس القارئ بأن هناك نقلة أو انقطاعا في مجرى الوقائع والأحداث، كما ألمحنا قبل قليل. وقد نجحت الرواية عبر هذه التقنيات السردية والخصائص الفنية في معالجة الواقع الراهن معالجة فنية جديدة تنتصر لما هو إنساني وتشجب الإرهاب وتمظهراته المختلفة. وقد استطاعت، أيضا، الكشف عن الجذور السياسية والاجتماعية وراء هذه الظاهرة التي صارت تتفشى وتهدد المجتمعات الإنسانية المعاصرة بالدمار والانهيار الحضاريين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية