من الأسئلة التي طرحت عليّ في ملتقى الكويت، ومن قارئة مثقفة، سؤال اعتبرته مهما، ويمكن أن توضح الإجابة عنه أو تضيء جزءا من آلية صناعة الرواية.
كان السؤال هو: هل يمكن كتابة رواية حسب الطلب؟ بمعنى هل يمكن للكاتب أن يقوم بكتابة رواية بناء على معطيات زوده بها أحدهم، وطلب منه أن يكتبها رواية؟ مثل أن يزوده بقصة حب كان طرفا فيها، أو مأساة جرت في عائلته، أو حتى كارثة قومية، كان راوي القصة، مشاركا في فصولها ويريد أن يراها في رواية؟
لقد ذكرني ذلك السؤال بأيام كتابة الشعر في بداية التعلق بالكتابة، حين كنا نستمع إلى قصص الحب أو الجمال أو أوصاف الجميلات، ونكتب القصائد بناء على ذلك، وأذكر أنني كنت أستمع للكثير من تلك الحكايات، التي يرويها أصدقاء وزملاء في المدرسة، وغالبا ما أسلمهم قصائد يفرحون بها، ثم أسمع تلك القصائد مغناة بأصوات مطربين مغمورين، وقد جاءني أحد هؤلاء المطربين الصغار يوما وأضحكني كثيرا حين قال: اكتب لي قصيدة» لأكهرب» بها واحدة تعجبني، لكن تلك الفترة المراهقة انقضت بخيرها وشرها، ودخلت بعد ذلك في مجاهل الشعر الحر، ثم أقلعت عن الشعر كما هو معروف.
أعود لطلب كتابة الرواية، وأظن أننا متفقون جميعا على أن كتابة الرواية في أغلبها إيحاء يأتي للكاتب من أفكار اختزنها في عقله الباطن، صادف أنها استعرت فجأة بناء على مواقف جديدة حدثت للكاتب نفسه بلا وسيط، وانهمرت نصا روائيا. هذا عن الكتابة الأولى بالطبع، ثم تأتي الصنعة في كيفية ترتيب الأفكار والفصول، وتصعيد بعض الشخصيات إلى الذروة والهبوط بأخرى، أي جعل بعض الشخصيات رئيسية، وأخرى ثانوية، وإضافة أحداث للنص، وحذف أحداث لا ضرورة لها، والمؤكد أن الكتّاب الذين لديهم خبرة جيدة، يستطيعون تنميق عملهم وترتيبه جيدا حتى من المسودة الأولى، وتأتي المراجعات بعد ذلك مجرد رتوش بسيطة لا تغير من النص كثيرا.
في هذا السياق، أي وجود دروب يمكن أن تسلكها الصنعة إلى النصوص المكتوبة بإيحاء، يمكن أن تدخل النصوص المحكية، أي تلك التي يرويها آخرون لكاتب روائي ليقوم بصياغتها أدبيا.
وجود دروب يمكن أن تسلكها الصنعة إلى النصوص المكتوبة بإيحاء، يمكن أن تدخل النصوص المحكية، أي تلك التي يرويها آخرون لكاتب روائي ليقوم بصياغتها أدبيا.
المسألة هنا ليست سطحية بكل تأكيد، أي أن يستلم الكاتب خامة النص بأذنيه، ويجلس في اللحظة نفسها ليكتب نصه الروائي، ويأتي بعد شهر أو شهرين ليقرأه على صاحب الخامة، ويرى ابتسامته متسعة، أبدا هذا في رأيي لا يحدث، ولكن الذي يحدث هو أن الكاتب يستمع للحكي، يختزنه في ذاكرته، وتماما مثلما يحدث مع نصوصه الشخصية، يدور النص المحكي في ذهنه، حتى تنضج فكرته جيدا، وتأتي شخوصه راكضة بعد ذلك. إذن لن يكون ثمة خلاف كبير، ولن يدعي أي شخص حكى قصة لكاتب، إن القصة له، لأن ما حُكي ليس ما كتب تماما، وإنما أعيدت صياغته واتسعت مساحته ليستوعب أفكارا أخرى، ولو كان هو القصة الأصلية، إذن لماذا لم يكتبها الذي رواها للكاتب؟ قطعا سنجد قصص الحب التي رويت، ولكن بثياب أخرى، وقصص المآسي والأفراح بثياب إما أكثر بهاء، أو قتامة، ولو كان ثمة موت في النص المحكي، سيكون في الرواية موت أيضا، فقط بشروط أخرى، وأسباب أخرى.
لقد سألتني القارئة التي طرحت سؤال النصوص المستلفة، إن كان في تجربتي عمل كتبته حسب الطلب؟ وتقصد بناء على قصة أسمعني إياها أحدهم، وطلب مني كتابتها؟
في الحقيقة كتبت أكثر من مرة بناء على اقتراحات من قراء، ولا أعني أن أحدهم حكى قصة تخصه، إنما كانت القصص تخصني أنا، وفقط ما وردني كان اقتراحات من أشخاص يتابعون كتابتي، مثلا كتبت مرة على صفحتي في فيسبوك عن الرسائل التي عثرت عليها مع عدد من زملائي، أمام سور المدرسة الثانوية في مدينة بورتسودان، حين كنت طالبا، كتبت لمحة صغيرة عن الرسائل المكتوبة لواحدة اسمها أسماء، من شخص سمى نفسه المرحوم، وعلى الفور انهمرت التعليقات وكانت كلها اقتراحات بأن يكتب هذا النص كعمل روائي. والذي حدث أنني بدأت أنظر للفكرة بشكل جدي، قمت بتدويرها في ذهني، وسرعان ما تشكلت في الخيال وكتبتها بعد ذلك، ولم أحس أنها رواية بناء على طلب أحدهم، وإنما روايتي المطمورة في الذهن، وكانت ستخرج منه آجلا أم عاجلا، وفقط سارع بإخراجها عدد من الأصدقاء.
أيضا ذكرت مرة تلك الرسالة التي تلقيتها من قارئة، اطلعت على نص لي صورت فيه ما لحق بالرجال من أسى، جراء التطرف والهذيان، وادعاء امتلاك الحقيقة عند البعض، كانت القارئة تسأل عن مصائر النساء في تلك البلدة، التي أصابها الخراب، وهنا أيضا توقفت عند تلك الفكرة المقبلة مع الرسالة:
ماذا حدث للنساء في مدينة استبيحت بالكامل؟ وأيضا كان هذا نصي الموجود في الذهن وتمت مناداته بواسطة قارئة متمكنة، لقد كتبت تلك الرواية التي كانت تبحث عنها القارئة وربما غيرها من القراء، ولا أحس أبدا أنها كانت كتابة بناء على رغبة أحدهم..
الفكرة إذن في هذا الموضوع، هو الجدية في استلام الطلب، والجدية في التعامل معه، وإدخاله إلى الخيال والتأمل، والخروج بنص هو في الحقيقة نص الكاتب، وسيكون كتب بكل أدواته التي يملكها.
أخيرا أشير إلى أن هناك كتّابا يصنعون الرواية من دون أي اعتماد على الإيحاء، أي يكتبون بقصدية شديدة. حين يجلس أحدهم إلى الطاولة بنية الكتابة ويكتب، وهنا لا أقول أن ذلك عيب، بل أظنه براعة، أن تكتب بلا انتظار للكتابة أن تأتي، ومثل هؤلاء الكتّاب، قطعا تناسبهم القصص المحكية كثيرا.
٭ كاتب سوداني
بصراحة الرواية هي حذاء كبير يصلح لأن يلبسه الجميع ، لأنه على مقاس كافة الأحجام.الصغيرة تضع قطنا في الفراغات لملئها والكبيرة ترتاح له بدون وسائد داخلية.وفي الأخير يصبح هذا الحذاء الكبير ملكا للطرقات.
حضرة الكاتب لماذا عدم الاعتراف بفضل هؤلاء القراء الذين اوحوا لك وحرضوا على كتابة اكثر من عمل لك، بشهادتك هنا؟ ماذا تسمّي ذلك، رغم انك بنفسك تذكر انك كتبت تحت تأثير الطلب المباشر لهؤلاء، لكنك تسند ذلك الى مطمورات وعيك كما سميتها.. أليس أقل الواجب هو العرفان بالجميل، وربما كاتب غيرك لما كان يتردد في اهداء العمل الذي كُتب بتحريض من قارئ وما شابه، إلى هذا القارئ وبالإسم.
تعليقا على عنوان (كتابة عند الطلب) وما قرأت طريقة فهم إبن مدينة بورتسودان (أمير تاج السر) لها، فمن الواضح أن هو ضد القطاع الخاص، في إنتاج أي منتج لغوي،
بناء على عقد تجاري بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر لإنتاج منتج يمثل ثقافة النحن كأسرة إنسانية منتجة لمنتجات ذات عائد اقتصادي،
يمكن قياسه بوحدة الزمن لمعرفة تكاليف الإنتاج، بشكل عملي ومنطقي وموضوعي،
الذي لا يفهمه موظف النظام البيروقراطي لدولة الحداثة بشكل عام، وهنا مأساة أو أس المشاكل الإقتصادية التي يعاني منها السودان والجزائر، كدولة عضو في نظام الأمم المتحدة، في أجواء العولمة والإقتصاد الإلكتروني في عام 2019، على الأقل من وجهة نظري.??
??????