يبدو أن الحديث عن الوجود، وعن تعالقاته المتعددة والمتشعبة، لا ينفصل عن الحديث عما يمتلكه الكائن البشري من كفايات تعبيرية، معززة بوسائطها المادية والرمزية، أي بوصفه كائنا لغويا، يحظى بمؤهلات استثنائية، تتكامل فيها إواليات التعبير مع إواليات الفهم. ما يؤهل الملكة اللغوية للارتقاء إلى مستوى تطويع للوسائط التدبيرية، الموجهة عمليا بسلطة العقل.
من هذا المنطلق، سيكون من الطبيعي أن يعتد الكائن بتميزه عن غيره من باقي الموجودات، تحت ذريعة تملكه لمهارات التواصل اللغوي. وهو الاستنتاج الذي يفنده «الفكر الشعري» الكامن بالقوة والفعل، في خلفية كل معرفة، فلسفية كانت أو تقنية. باعتبار أن مكونات الطبيعة ككل، تتوفر بدورها على وسائطها اللغوية الخاصة بها، والتي تتفاعل عبرها مع غيرها، ومعنا أيضا، حيث نكون مهيئين لفك شيفرتها، وترجمة رسائلها إلى لغتنا البشرية.
نستحضر هنا على سبيل المثال لا الحصر، الإشارات المتبادلة بيننا وبين الظواهر الطبيعية. فضلا عن تلك الرسائل التي تبثها لنا الكوارث البيئية، والانهيارات المجتمعية. ما يدعونا إلى الاقتناع بحضور تواصلات دائمة، في كل الاتجاهات، خارج المنهجية المعتمدة في التواصل العادي والتقليدي. الشيء الذي يدعونا للتأكيد، على أن دور اللغة يتجاوز حدود تدبير الكائن لعلاقاته مع محيطه، إلى مستوى أكثر تقدما، بغاية تدبير استراتيجيات الهدم أو البناء، التي تقوم بها الطبيعة، كلما كانت بصدد الإعلان عن حضورها.
وهي القناعة التي تشتغل بها النصوص الإبداعية الكبيرة، التي غالبا ما تدرجها القراءات التقليدية ضمن إطار الكتابات الغرائبية. وبالتالي، فإن الدور الذي تسعى الجماليات الفنية والإبداعية إلى الاضطلاع به، يكمن في محاولتها تقمص لغات الكون، وليس محاكاتها، من أجل إسماعنا ما لا نتمكن من سماعه، وتظهير ما يتعذر علينا تمثله، بالنظر لتواجده الغامض خارج دائرة إدراكنا.
فداخل طقس الإبداع فقط، يحدث ذلك التعرف المحتمل على لغات «الشيء» وأسراره، رغم إمعانه في تخفيه بعيدا عن دائرة السماع والرؤية. وداخل الطقس ذاته، يتراجع عجزنا عن تفسير ما بدا لنا في دائرة المعيش عصيا على الفهم. مادام الأمر يتعلق بطقس، تتحقق فيه متعة فك شيفرة اللغات التي تتواصل بها الموجودات. بهذا المعنى، يمكن القول، إن مجموع العناصر والمقومات التي يتشكل بها الكون، تحقق استمراريتها من خلال تواصلها الدائب مع غيرها، حيث تحدث تلك التحولات والتغيرات، التي يسعى الكائن إلى الإحاطة بما تيسر من أسبابها، في سياق ما تمده به التجربة الإبداعية من خبرات ومعارف. بوصفها الإطار الجمالي، الذي لا تكف الكثير من الحقائق عن مكاشفتنا فيه بخفاياها.
ومن المؤكد أن الهاجس الفعلي لكل عمل إبداعي كبير، بصرف النظر عن جنسه ونوعه، يتمثل أساسا في تملكه للغات الكون، التي تتيح له إمكانية التسرب إلى تضاعيف أسراره وخباياه. لذلك، فإن القول الشعري بوصفه نموذجا للفعل الإبداعي، لا يمكن أن يكون إلا تجربة باطنية بالمفهوم الصوفي للكلمة، بدون أن يتقيد بأي إطار قبلي ومسبق، يتدخل في توجيه آلية اشتغالها.
إنها في السياق الذي نحن بصدده، تجربة منذورة لانفتاحها الكلي على لغات «الشيء»، ومتحررة من أي توجه نظري جاهز. وبالتالي، فهي أرقى ما يمكن أن تطاله اللغة. تلك التي تسعفك في قول ما لن تكون قادرا على قوله، ضمن إكراهات الشروط المجتمعية.
إلا أن الأخذ بهذا المعطى الذي يبدو على الأقل من منظورنا جد موضوعي، سيظل مؤجلا باستمرار، باعتبار أن تملك اللغة المؤهلة للإحاطة بأسرار الكون، مطلب لن يتحقق إلا عبر تقطعات متباعدة. بحكم أن تاريخ التعرف بكل مرجعياته واختصاصاته، هو خلاصة سلسلة طويلة من الاحتفاءات التقديسية بمنجز معرفي أو إبداعي ما، حيث يمكن رصد تأثير هذا التقديس الأهوج في تعطيل دينامية الصيرورة، التي يفترض فيها أن تكون مجالا خصبا، لاكتشاف المزيد من الإبدالات، ذلك أن بعض المنجزات، تأخذ في لحظة تاريخية ملتبسة، شكل حدث ثقافي وإبداعي مهيمن، بالاستناد إلى عوامل تسويقية، لا علاقة لها بجوهر الإبداع.
يمكن تبرير لعبة التكرار هذه، بهاجس الانتماء إلى زمن الإنجاز الأول، وفي جميع الأحوال، هو هاجس لا يخلو من التمحل، بدليل أنه يتحول بالنسبة للقراءة اليقظة، إلى كابوس حقيقي.
وغالبا ما يكون ذلك بمباركة مبيتة من قبل المريدين والحواريين، وأحيانا من قبل الجهات الوصية، حيث تتحول هذه المنجزات بقدرة قادر، إلى نماذج مثالية ودائمة التكريس، بوصفها القدوة الأبدية في استشراف أي أفق مستقبلي له علاقة بمجالها. ما يؤدي إلى توريط سؤال الإبداع، في عملية إعادة إنتاج ما تم إنجازه، وفي اجترار ما سبق اكتشافه والتعرف عليه. وفي غالب الأحيان، يحدث ذلك بصورة جد مشوهة، ما دام زمن الخلق الفعلي، غير قابل للتكرار، والاستنساخ. عدا ما إذا كان الأمر يتعلق بممارسة تمارين مدرسية، وظرفية، تروم استحضار لحظة الخلق. علما بأن زمن التمارين، هو الأكثر هيمنة، مقارنة بالاحتجاب الملموس لأزمنة ولغات الخلق.
أيضا، يمكن تبرير لعبة التكرار هذه، بهاجس الانتماء إلى زمن الإنجاز الأول، وفي جميع الأحوال، هو هاجس لا يخلو من التمحل، بدليل أنه يتحول بالنسبة للقراءة اليقظة، إلى كابوس حقيقي.
والجدير بالذكر، أن تشديدنا على العمق الدلالي الذي تتميز به المستويات المتقدمة للقول الإبداعي، بمختلف تجلياته، يتأسس على تعاملنا مع اللغة بوصفها العتبة الأساس، المفضية إلى رحابة الكون، خاصة حينما تأخذ شكل كتابة، ترتقي ببنيتها من حيزها الصوتي /الشفاهي، إلى مقام المكتوب، الذي يغري الذات بانصهارها في لعبة الخلق والإبداع، بما هي لعبة تشخيص ممكن، للغائب والمتخفي.
فبقوة هذا الانصهار، تهتدي الرؤية إلى ذاتها، تلك التي ينعدم وجودها بانعدام أرض الكلام. باعتبار أن كلا من ضوء الرؤية، وأرض الكلام، يتكاملان معا، حيث لا جدوى من وجود أحدهما بمعزل عن الآخر. إذ ثمة ما يشبه الإضاءة المتبادلة، عبر قانون تبادل الإشارات.
والتأكيد على الرؤية بما هي حضور فكري وإبداعي، لا يعني بالضرورة الإحالة على بنية أحادية البعد، بقدر ما يحيل على فضاء لامتناه من إبدالاتها الخاضعة لتصنيف تراتبي تتبارى فيه جماليات القول، مع أشباهها وأضدادها. حيث يمارس كل سؤال على حدة بحثه الخاص والمتفرد عن آفاقه المحتملة، من خلال احتكاكاته، وصراعاته مع مجرى الإبدالات الحافة به، التي يحتل فيها منزلة الصدارة، ما يمكن توصيفه «بالفتح» الشعري الذي نعتبره التجلي الأكثر نضجا لملكة التفكير، ذلك أن الأمر يتعلق بتملك مهارات تعبيرية، تغري الذات بممارسة تجربة الإبداع، وهي مهارات من شأنها تنشيط ملكة الفضول المعرفي لدى المتلقي، عبر استدراجه إلى فخ الاقتناع الأعمى، بالدلالة المقدمة إليه، كي يعيش متعتها أو مأساويتها، تبعا لنوعية السياق. ولعل حيازة سلطة اللغة، هي التي تفتح المجال لتملك باقي السلط، التي يستدعيها السياق ذاته.
من هذا المنطلق، سيعمل الكائن الاستثنائي على ترجمة كل اللغات التي تضج بها حناجر الكون، إلى لغة إبداعية وجمالية. بما في ذلك لغة العدم، استجابة لمتعة القول وإكراهاته، التي تلزمه بها المقامات كافة، التي يحدث أن يتواجد فيها.. سامية كانت أم منحطة. هناك، حيث تتطلع أشياء العالم، ودونما استثناء، لأن تحظى باستضافة أرض الكتابة لها.
شاعر وكاتب من المغرب
كليشي الإحباط لدى كل المحبطين للعزائم:
” شوف آك الكتابة وشوف آك المقال وشوف آك المنطق وشوف آك الجواب، ماللا كتب وماللا طبعة وماللا ثمن، آو “.