شكل العالم الافتراضي مرتعا لجميع المبحرين من أجل البوح بآرائهم والصدح بتصوراتهم وأفكارهم، ما جعل الارتباط بالواقع والالتزام بمقتضياته مجرّد وهم ندّعي دوما الامتثال له؛ إذ إن الحياة الشخصية بحميميتها وأسرارها، تلفظ اليوم أنفاسها الأخيرة، ليتحول كل ما نمتلك في أذهاننا من صور وذكريات إلى مجرّد أخبار يتم حفظها في صفحات مختلفة ألوانها، فتفقد بذلك قيمتها المعنوية وسلطتها التاريخية.
في هذا السياق المنبئ بنهاية ذاكرة الإنسان وانكشاف عوراته أمام الجميع، صدر كتاب «الإنسان العاري، الدكتاتورية الخفية للرقمية» نهاية مايو/أيار 2016، معلنا أن العالم الواقعي اليوم ليس سوى مجرّد ممرّ نحو عالم افتراضي، لا حدّ لامتداداته، فقد «أصبحت الحياة الخاصة شذوذا»، كما يصرح بذلك أب الإنترنت فينتون سيرف. لا يُسمح لنا اليوم إضمار صورة أو فكرة، بل إن كل حوار داخلي أو مناجاة نفسية، إما أن تكشفها أمام الملأ في صفحة من الصفحات، أو أنك ستنعت بالشذوذ الإعلامي. لذلك قدم صاحبا الكتاب مارك دوغان وكريستوف لابي تصورا شموليا للواقع الرقمي الذي نعيشه اليوم، واقع الحضورية المطلقة وعدم القدرة على قطع الاتصال مع الآخر المجهول، ولا التمكن من الالتزام بالقيم الإنسانية. هو زمن البوح المطلق والتصريح بكل شيء كيفما كانت قيمته، كل ذلك تحت وصاية كلية للشركات الرقمية العالمية، إذ لا يمكننا التفاعل مع أي متغير إلا بوصايتهم وعلمهم، فيظل الإنسان سحابة يومه يرسل معلومات مجانية للآخر حتى يتحكم في أفكاره ونزواته.
وهم المشترك وحقيقة الانعزال:
يسعى المتكلم اليوم إلى تقاسم كل معلوماته مع الآخرين، مقنعا ذاته، أن الفرحة والحزن لا يتحققان إلا بعدد المرات التي يُرقن فيها على زرّ الإعجاب، فيُطمئن ذاته بأن الجميع تقاسم معه المعلومة، وأنه اجتماعي بصفحته، ليصبح الحاضر غير مكتسب للشرعية والمقبولية، إلا بنشره عبر مواقع التواصل. والحال أن الأمر ليس كذلك، فهذا الافتراضي يزيد من غربة الفرد ويعمق وحدانيته وانعزاله، لا يرى الحقيقة إلا من خلال الرقمي المثبت أمامه، لتتحقق نبوءة أفلاطون مع أسرى الكهف، «ستكون ظلال الأشياء عند هؤلاء الرجال المكبلين هي الحقيقة ذاتها، ولن يروها إلا من خلال الظلال»، ماهية الشيء لا تعرف إلا بوسيط افتراضي مبلغ لحقيقة مشوهة بعيدة عن الواقع. هي سعادة افتراضية غير متحققة، لذة زئبقية لا مجال لإدراكها، هذا ما يؤكّده الأنثروبولوجي الأمريكي شيري تورك، في كتابه «وحيدا ضمن المجموع»: يعطينا الغلو في الاتصال إحساسا بأننا متصلون خارج الحدود والثقافات واللغات، والحال أننا منغلقون على أنفسنا كل في كون افتراضي منفصل عن العالم». لذلك، فمواقع التواصل ما هي إلا أقنعة للعزلة الرقمية، وليست أماكن للقاء والتواعد.
2 ـ التاريخ ما بعد الإنساني وفقدان الذاكرة:
على مرّ التاريخ، اعتبر حفظ النصوص وتذكر المأثور أساسا لا محيد عنه، لضمان استمرارية الحضارة من جيل إلى آخر، بل حتى بانهيارها تبقى ملاحمها وقصائدها شاهدة على قوة هذا المنجز الإنساني. بالمقابل، يشهد بناء حضارتنا اليوم، عملية إفراغ للذاكرة وتهميش للمحفوظ بشكل إرادي، لم يجبرنا أحد على فعله، «فنحن نتخلى طوعا للبيغ داتا عن جزء كبير من حميميتنا، وذاكرتنا مقابل اتصال مجاني نمارس من خلاله هويتنا في التلصص والنميمة، والعبث الصبياني، وقليل من الفائدة العلمية». لقد تمت الاستعاضة عن الذاكرة الإنسانية – الشفهية والمكتوبة – بذاكرة رقمية فقدنا من خلالها هوياتنا وأهواءنا وحيواتنا الخاصة، فأضحى التلذّذ بالمنجز غير متحقق إلا عبر مشاطرة الإحساس مع الآخر، وتخزين المعلومة في صفحة رقمية تسرّ الناظرين، إذ لا فائدة ـ كما يقول المؤلفان- من تسلق قمة الكلمنجارو، ما لم ينشر ذلك في الفيسبوك أو التويتر. الحاضر، إذن لا معنى له إلا بتحويله إلى ذاكرة مكبسلة.
ومن المخاطر التي يتعرض لها الرائي اليوم، فقدان بوصلة الزمن والمكان، فذاكرة الزمن لا معنى لها حين يمخر الفرد في عباب المواقع، لا تثيره إلا اللحظة والحضور والفورية والآن. نسيان كلي للتاريخ وللمنجز الإنساني التراثي، ورفض مطلق لاستشراف المستقبل والتنبؤ بمجريات اللاحق، إكسيرهم الرقمية ونبراسهم تجميد الفكر، فغابت الاستقلالية وتلاشت، لتسند مهمة التوجيه والتأطير إلى الآلة بلوغاريتماتها الخاصة. إبدال جديد يعيشه الإنسان في مسار تطوره منذ فجر التاريخ، فقد أوكل أمر ذاكرته للآلة، وفقد حافظته التي تميزه عن باقي الكائنات، ذلك راجع إلى اعتقاد الإنسان أن الذاكرة ما هي إلا تخزين لأحداث وصور وفيديوهات مفرغة من الإحساس، هذا ما أكّده الفيلسوف فرانسيس وولف، معلنا أن الذاكرة ليست مفتاحا يخزِّن، إنها تعاش بضمير المتكلّم، إنها تنشط في الزّمان والمكان، في العلاقات التي أنسجها مع الآخرين». لربما يفقد الإنسان اليوم أهم ما ميّزه على مرّ التاريخ، ألا وهو الذاكرة، ليتساوى مع غيره من المخلوقات.
بعيدا عن التمويه بالإرهاب، يتضح أن عالم البيغ داتا – بشركاته المتحكمة ـ يسعى إلى إخراج الإنسان من طبيعته التي خلق عليها، وجعله كائنا هجينا مطابقا للروبوت، بإلغاء كل المميزات الفطرية أو تأجيلها، الشاهد عندنا أن الإنسان اليوم يعيش حالة أرق معولم، بعد أن قلت ساعات نومه، وامتدت ساعات عمله فوق المحدّد، بعد أن نقل -عبر الحاسوب- مكتبه إلى غرفته الخاصة، ليتم المزج بين وقت الراحة والعمل والتسلية.
3 ـ البيغ داتا (big data) أو سدنة المعبد:
فقد الإنسان اليوم سؤدده وتحكمه في حياته الخاصة، وأسند زمام أموره لفئة متلصصة تقتنص كل لفظ يدونه في موقع ما، تحت طائلة مجانبة الصدفة وتجنب ما سيضر الإنسان (الإرهاب مثلا). هي شركات عالمية اتحدت في هدفها المتمثل في التحكم في الإنسان وتنميطه، وجعل كل أفراده نسخة متشابهة لا تثير الشكوك أو الفوضى، لذلك يعتبرون المعلومة مادة أولية لا تنفد، تنبعث على الدوام من أنابيب الرقمية، فهي الذهب الأسود الجديد.
تسعى هذه المدونة (التنظيم) إلى إلغاء كل الأفكار والمبادئ، التي تشبع بها الإنسان على مرّ التاريخ، فالديمقراطية والمواطنة والحرية والسيادة كلمات رنانة أفنت الشعوب حضاراتها بغية ترسيخها، أضحت اليوم في نظرهم إرثا مهترئا، «لقد تقادمت الديمقراطية في تصور البيغ داتا، كما تقادمت قيمها الكونية، وتقادم مفهوم المواطن الذي اخترعه اليونان».
بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، لم يبق الأمر مرتبطا بالتجسس على فئة من الأفراد، وإنما هناك رغبة جامحة في التلصص على الكوكب ككل، وضبط حركاته وسكناته ولواعجه وأفكاره. هذا ما يصرّح به إريك شميدت بقوله: «في عالم مهدّد باستمرار، سيكون الشخص النكرة خطيرا، ليس من الممكن الإمساك بهذا الإرهابي أو ذاك وهو يقوم بهذا الاعتداء أو ذاك، وهو يتحرك نكرة لا يعرفه أحد». يظهر المبدأ في مصلحة الإنسان بحماية حياته، والحال أن الجواني مخالف لما يبدو لنا، فالجميع أضحى إرهابيا مع وقف العقوبة، إلى أن تتثبت التهمة بعد تصريح أو إعجاب بصورة أو تعليق على حدث ما. كل أصحاب الرأي والصحافيين مهدّدون بالاعتقال، إذا خالفوا رزنامة القوانين المفروضة عليهم، يجب البوح في إطار النظام والقالب المخصصينِ لذلك.
بعيدا عن التمويه بالإرهاب، يتضح أن عالم البيغ داتا – بشركاته المتحكمة ـ يسعى إلى إخراج الإنسان من طبيعته التي خلق عليها، وجعله كائنا هجينا مطابقا للروبوت، بإلغاء كل المميزات الفطرية أو تأجيلها، الشاهد عندنا أن الإنسان اليوم يعيش حالة أرق معولم، بعد أن قلت ساعات نومه، وامتدت ساعات عمله فوق المحدّد، بعد أن نقل -عبر الحاسوب- مكتبه إلى غرفته الخاصة، ليتم المزج بين وقت الراحة والعمل والتسلية. علاوة على ذلك، يتم التحكم في رأيه السياسي وورقة الاقتراع التي سيضعها في الصندوق الشفاف، بما يبث أمامه من صور وكليشيهات ترسّخ في لاوعيه. لقد فقد الإنسان الذات والأنا والهوية.
وجب التصريح، بناء على ما ذكر سابقا، أن عالمنا اليوم هو نسخة لوغاريتمية شبيهة بأي برنامج رياضي، وضعت فيها جملة من الاحتمالات التي يخضع لها الإنسان برغبته وإرادته، فهو من يقدم المعلومة بدون إجبار، بعد تمويهه بسعادة مطلقة ويوتبية فوق الأفلاطونية. لذلك ما على الفرد إلا الاحتياط من كل نقراته ولايكاته (like)، وأن لا يرتبط دوما بالجدران الزرقاء والخضراء، بالحفاظ على ذاكرته عن طريق ترويضها وتمطيطها بالحفظ، واعتماد الجدال الشفهي المباشر عوض الإيموجيهات (emoji) المنمِّطة لكل المشاعر والأحاسيس. إذا كان قدرنا هو الانغماس في عالم الرقمنة والاندماج في لوغاريتماته، فلنتحصن بأفكارنا ومفاهيمنا وذكائنا، وإلا سنعيش عرايا إلى الأبد.
كاتب من المغرب
أمام كل هذا فنحن عراة حفاة إلا ما غطاته منا عوالمنا الافتراضية إذا أنا أسبح في هذا العالم إذا أنا موجود و غير ذلك لا وجود لي الا في عين الآخر ليصبح وجودي كذلك افتراضي قادر على الاختفاء بكبسة زر واحدة فهل هذا وجود؟ قديما كان يقال يموت الإنسان و يبقى أثره من خلال ما يتركه من إرث أدبي أو فني أما اليوم فوجودنا رهين بالشاشة الزرقاء تنتهي حياتنا بمجرد إطفإنها.