يرى ريموند وليامز في تتبعه لكلمة نظرية، اتصالها بمعنى التّأمل، كما يمكن أن نقول إنها مقابلة لكلمة الممارسة، فكلمة النظرية عبرتها تحولات كثيرة، فهي ما زالت عرضة للتحول، تبعاً للمتلازمة التي يمكن أن تضاف إليها. من هذا السياق نلج مقاربة وحيد بن بوعزيز الذي ينطلق من محاولة قراءة النظرية، لاسيما النظرية الفرنسية ـ تفكيكية دريدا ومنظورية دولوز وحفريات فوكو- وما كمن فيها من تحييد لبعض القيم التي استدعت مقاربات يسارية لكل من تيري إيغلتون، وإعجاز أحمد، وأنطون كومبانيون، وليونارد جاكسون بوصفها خطوة لتجاوز مقولة المدارس الشكلية، بالتوازي مع نقد بعض التوجهات التي حكمت المقاربة الثقافية.
في كتاب وحيد بن بوعزيز بعنوان «بؤس النظرية – مُساءلات في الدراسات الثقافية» – صادر عن دار ميم سنة 2023 – إشهار واضح للنوايا عبر تبني دلالة كلمة بؤس المضافة إلى كلمة النظرية، وكأن ثمة محمولات تجاه النظرية التي تموضعت في فرنسا، وأحدثت أثراً كبيراً على المقاربات الفكرية أو الأدبية، فاستغرقت الكثيرين، فضلّت، وأضلّت، كما أننا نلمح شبه قناعات، تجاه وجود فاعلية حقيقية للنقد ضمن إطار النظرية الفرنسية، من قبل التّصور الماركسي في كتاب تكون من خمسة محاور ومقدمة.
الأزمة
نقرأ في المحور الأول «أزمة النظرية الراديكالية إمبراطورية المنافي الهجنة» نقداً للتوجه اللغوي الذي ينظر للنص الأدبي على أنه وجود مغلق، بالتوازي مع رفض قيمة مفهوم الانعكاس والدعوة إلى الانفتاح على (البعد البراني) في النص الأدبي من خلال استثمار تيارات واتجاهات نقدية أهمها علم الدماغ والعصبيات والسيبرانية، وغيرها، لنقع على التوجه الواضح للكتاب، عبر نقد مقولة ما بعد الحداثة التي جاءت بهدف تقويض المركزيات الكبرى، غير أنّ منظري ما بعد الحداثة، كما يوضح الكتاب، تجاهلوا المقولات النقدية التفسيرية للمؤسسة، أو لمجالها؛ أي بمعنى أن هذه التوجهات كانت تفتقر إلى بعد يتعلق بقراءة التأمل الذاتي أو النقد الذاتي.
ولعل المؤلف يقرأ علاقة ما بعد الحداثة بالتكوين المؤسسي للدولة، وما يكمن فيها من فكر ينهض على السيطرة أو السلطة، فهو يفكك مقولة (ما بعد)، التي يرى أنها أصبحت غير صالحة، على الرغم من القيمة الإيجابية لما بعد الحداثة التي أوجدت مقولات الاختلاف والتعدد، ومع ذلك فهي تُتهم أحيانا بالاختزالية والتسطيح. نخلص إلى ما يريد أن يصرح عنه الكتاب حين يصف ممارسة ما بعد الحداثة بالالتفافية، بعد أن عمدت إلى تقويض القوميات، والأفكار المناوئة للاستعمار، كما يمكن أن نضيف أنها اتسمت ببعد معولم، حين شرعت بتمييع المفاهيم الصلدة للأمم، والجماعات عبر إطلاق مفهوم آداب المنافي والهجنة، لا سيما لدى تمثيل المثقف الذي لا يعبر حقيقة عن وقائع الثقافة التي ينتمي إليها، كونه يذوب في سياقات العالم المركزي أو الحواضري ذي الطبيعة الرأسمالية، كما يرى وحيد بن بوعزيز، مستأنساً بكتاب إعجاز أحمد بعنوان «في النظرية: طبقات، أمم، آداب» من حيث الإشارة إلى استبعاد النظرية الفرنسية للمقاربة الماركسية عبر تحويل الصراع إلى وجودي فردي، وتحييد النضال أو الصراع السياسي.
ولعل النتيجة التي يمكن أن نخلص إليها من ذلك أثر قيم ما بعد الحداثة للحد من الفاعلية الماركسية لصالح اتجاهات تعنى بالهامش، فالبعد الذي يتحدث عنه وحيد بن بوعزيز، على الرغم من وجاهته، غير أنَه لا يمكن إنكار التصورات التي نهضت عليها مقولات ما الحداثة، التي كان لها إسهام كبير جداً في تمكين قضايا تتعلق في بحث التمثيل ونقضه، مع تمكين بعض الأصوات، وتقويض ثقل السردية الواحدة، فاتكاء الكتاب على نقد إعجاز أحمد بصبغته الماركسية، يبدو لنا أقرب للدفاع عن هذا التوجه، وبالتحديد نقد إعجاز للمجانسة، التي وردت في كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»، مع محاولة موضعة فاعلية المقولة الماركسية التي تعرضت إلى ضرر نتيجة قيم الاستبدال في تمكين مفهوم الصراع، واستبعاد قيم المفردة الاقتصادية.
شرور الرأسمالية
يتأسس المحور الثاني – ونعني الجزء الأول- على القيم التي تتبع تعدد أو تداخل الحقول العلمية، واتسام الثقافة المعاصرة بالنمط الاستهلاكي، كي تبرز مقولة العلم بوصفه عقيدة، مع جملة من التأثيرات التي نتجت عن ذلك، فكان لا بدّ من إقصاء البعد الإنساني لصالح البعد التقني، أو التخصصي، والحاصل أن مؤلف كتاب «بؤس النظرية» يأخذ على النظرية أو النظريات محاولتها إضافة قيمة علمية صلدة، بحيث تنأى الذات بنفسها عن أي قيم أو أبعاد إنسانية، لتسقط في فخ التخصصية، لاسيما إذا كانت هذه الممارسة تتصل بالمثقف، انطلاقاً من تنظيرات غرامشي، ولهذا فإنه عبر التخصصية أو (التحاقلية) – كما يفضل بوعزيز – تعمل على إعادة تمكين البعد الثقافي، بما تتسم به من دينامية، خاصة مع الإضافات التي أوجدها النقاد الماركسيون، إذ يرى الكتاب أن وجود تيارات ما بعد حداثية ذات طابع ماركسي قد يسهم في تأسيس مقولات العدالة، ورفض الهيمنة مع سعي إلى تفكيك المركزيات، ولا بد من الإشارة – في هذا السياق – إلى أن الكتاب قد بنى مقولته على نقد التيار الفرنسي ممثلاً بفوكو ودريدا، اتكاء على أعمال كل من غرامشي وحنة أرندت وأدورنو، وغيرهم. غير أنّ المنظرين الماركسيين، ومنهم ألتوسير وتيري ايغلتون قد اتهموا – أيضاً- الفلاسفة الفرنسيين بتمكين أو استعادة المنظورات البورجوازية، مع محاولة استعادة مقولة الفردي، وهو ما يتناقض مع النوايا التي نهضت عليها هذه المدرسة، التي يمكن وصفها بارتكاسة، أو عودة للخلف تجاه تمكين البعد الإنساني بهدف خدمة المصالح الرأسمالية.
إن موقف الكتاب من هذه التّوجهات يبدو أقرب إلى تبني البعد الماركسي، والإيمان بأن ما بعد الحداثة لم تكن سوى فعل استعادة أو وجه آخر لقيم الهيمنة، بالتوازي مع تمكين صيغ رأسمالية غربية في الأساس، إذ يقدم لها نقداً للنسقية التي تنصّ على توفر مقولة مُضمرة يصرّ عليها الباحثون، وبذلك فهي لا تمسّ حقيقة النص، إنما هي ممارسة سطحية، مما يعد مأخذاً. في حين يُشير الكتاب إلى أن كل ناقد ما بعد استعماري، يرى في كل بنية أدبية شبهات كولونيالية، في حين أنّ الكتابة النسوية، تسعى لأن تقدم مركزية جديدة تتمحور حول الأنثى.
على الرغم من أن الكتاب قد سدد نقداً عنيفاً للتوجهات ما بعد الحداثية والقيم الشكلانية (عربياً) إلا أن النقطة الأخيرة بدت أقرب إلى ممارسة تفكيكية للتوجه النقدي عينه، مع قدر من التناقض، أو التعميم، إذ يجب التمييز بين الناقد الثقافي في العالم العربي، والأكاديمي الذي لا يعي أدواته، فيلجأ إلى ابتسار المقاربة النقدية لضعف الأدوات والثقافة، وهذا ما يمكن أن يقترب من مقولة الكتاب إلى حد ما، ولكن دون تعميم مطلق.
الذاكرة والتاريخ
جاء المحور الثاني في جزأين: الأول بحث في المقاربة الثقافية، وبعض القضايا، ومن ثم ينتقل إلى جزء ثانٍ، كي يبحث في قضية التاريخ والذاكرة والصفح، وعلى الرغم من التعالق بين الجزأين، ولكن كان يفضل لو أن الكتاب فصل بينهما. فالجزء الأول أقرب إلى تأمل نظري أكاديمي في الممارسة الثقافية عامة، والثاني أقرب إلى تمكين بعد ثقافي إجرائي تجاه موضوع محدد، ونعني العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وما يكمن من صراع الذكرة، وخلاصة الأمر نحيله إلى أن ثمة تفارقاً بين مفهومين، ونعني التاريخ والذكرة. ولعل هذه إشارة مهمة، كما ينبغي التنبه إليها، ومن ذلك هيمنة النسقية على حساب القيمة الفعلية للنصوص الأدبية، لاسيما في الذاكرة، أو ذاكرة النصوص على وجه التحديد، ما يقودنا إلى ظاهرة الصفح، والإرث المتوتر، أو ذلك المبني على ذاكرة يتجاهلها الجلاد، في حين تبحث عنها الضحية المسكونة بالجريمة التي لا تسقط بالتقادم، كما نقرأ في مناقشة دريدا وجانكليفتش.
شُبهات الترجمة
في محور «الترجمة، ولعبة التفاوض والتعارض» ثمة تأسيس على قيمة النص بوصفه قيمة تتفاعل مع البيئة الثقافية والمحيط؛ بهدف كشف الآخر، ومحاورته، غير أن ثمة عوامل تحول دون تحقق ذلك على مستوى معرفة الآخر، وصهره في البوتقة الاستشراقية المسكونة بالتنميط، أو المعارف المُسبقة تجاه الشرق، التي يرى الكتاب أنها قد انتقلت إلى الترجمة، كي تكون معضلة تحتاج إلى الكثير من التأمل على مستوى التناول للثقافي؛ ولهذا فإن مقاربة روبنسون دوغلاس، تعد ذات قيمة، فمن خلال التحليل الذي قدمه الكتاب، نخلص إلى أن الترجمة كانت وسيطاً إشكالياً لتفعيل عملية الهيمنة على الآخر، عبر تجييش جيش من المترجمين الذي اضطلعوا بمهمة ترويض الآخر، وتمثيله بصورة معينة ينقصها التكافؤ.
يقدم الكتاب تجربة تحليلية على نص روائي في محور الترجمة، وإن بدا لي هذا التطبيق غامضاً على مستوى الاتصال بمقولات الكتاب، أو بدا غير متسق أو منسجم مع الفضاء العام للكتاب، رغم محاولته اكتناه ترجمة رواية دلال خليفة من العربية إلى اللغة الفرنسية، وما يكمن فيها من تشوهات ذات طابع استشراقي.
ينتقل الكتاب إلى مناقشة الفضاء الثالث عند هومي بابا، أو الانتقال من سياسة الترجمة إلى سياسية الحضارة، عبر ما يمكن أن ننعته بالإمبريالية الجديدة، وطرائق هيمنة جديدة ذات بعد اقتصادي تنحو نحو تقويض البعد المركزي الذي ساد عند الإمبراطوريات القديمة، فالتّصورات أو الممارسات الجديدة تعتمد لا مركزية (الهيمنة) ما يقودنا إلى البينية في عالم ينحو نحو الهجنة، والثقافات المتداخلة، كما أفعال الإزاحة عبر تحليل لافت في الكتاب لنظرية الترجمة عند هومي بابا.
في المحور الأخير ثمة مقاربة ما بعد استعمارية في فكر مالك بن نبي، الذي سعى بعد مرحلة الاستقلال إلى تجاوز الاستقطاب الثنائي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، عبر ثلاثة مبادى أساسية: قيمة الفاعلية المبنية على المنهج، ونقلها إلى مستوى الممارسة، ومن ثم نفي فكرة الاندماج في المنافي من لدن المثقف، أو المهاجر، وأخيراً المرأة الجزائرية التي رأى فيها نموذجاً للتفاني، الذي ينبغي أن يتجاوز عقدة الاستقلالية الفردية، مع التنبيه من فخ السقوط في الذاتية والمطالبة، علاوة على قضايا آخر يناقشها المحور في فكر مالك بن نبي.
وفي الختام، لا بدّ من التأكيد على قيمة الكتاب في تقديم مساءلة تتصل بالمقاربة الثقافية، إذ تتقصّد نقد الاختلالات التي تتعلق بما بعد الحداثة، وما أحدثته من انحراف في تمييع القضايا المركزية القائمة على العدالة مقابل الاستغراق في هامشيات فردية وجودية، علاوة على نقد شيوع بعض المفاهيم، والممارسات النقدية التي حجبت حقيقة النص، حين استغرقت في مقولات شكلانية، لم تتمكن من بلورة موقف نقدي. ويبقى الكتاب محاولة تحمل قيمة محورية من حيث تأكيد أهمية تأمل النظرية بذاتها، وهي ممارسة تحتاج لأن تكون نهجاً في مجمل الفكر العربي.
كاتب أردني فلسطيني