يوظف الكاتب والباحث ثامر عباس في كتابه «تقديس الزعامة.. دراسة في ظاهرة الكاريزما السياسية» الأسطورة في تحليل وشرح سايكولوجيا الزعامة وكيفية نشأتها عبر التاريخ وصولا للعصر الحالي، ورغم أن دراسته هذه لا تذهب باتجاه البحث في المكتشفات والدراسات الأسطورية أو فضاءاتها، إلا أنه يفتح بابا مهما في طريقة الربط بين المقدس عبر الأسطورة، والمقدس في علوم السياسة والاجتماع لاحقا، وصولا إلى تكون الشخصية (الزعيم) عبر التاريخ، إذ يخلق صورة واضحة ومدعمة بالأدلة والشواهد والدراسات المتداخلة عن دور الموروث والامتداد التاريخي بشكله المقدس، في بلّورة تشكّل الزعامة والزعيم. ويعترف الباحث في الصفحات الأولى من كتابه الذي يتكون من 653 صفحة في طبعته الأولى عام 2015 بصعوبة إضافة أي تحليل إلى سيول ما قيل عن الأسطورة وما كتب حولها، واصفا المحاولة بالتهور والمغالطة، مستخدما في ذلك عبارة (فائض المعنى) الذي بلغه مفهوم الأسطورة، مكتفيا باستخدامها كأداة تحليلية فقط
تأليه الذات
يرى الكاتب أن الأسطورة هي ما دفعت بهذا الموجود النسبي (الإنسان) للتطلع نحو تقديس ذاته، وتأليه أناه عبر ادعائه الانتساب لسلالة الآلهة تارة، وزعمه تارة أخرى لحيازته شرعية السلطة باسمها وامتلاكه تفويض الحكم بأمرها، وتارة ثالثة بإسباغه على نفسه ما طاب له من نعوت وألقاب، تشي بمظاهر التعالي والألوهية، وصولا لتشكل الشخصية الزعيمة «إن من يرى رسمه ويظهر اسمه في كل مكان، ويجري ذكره على كل لسان يصبح كلّي الحضور فيكتسي صفة الإلوهية»، وبمراحل متدرجة يتطور الشكل «فيبرز الزعيم مستغلا حالة الطواعية النفسية والاجتماعية ومستخدما خصائصه الخطابية» بحيث يصبح الزعيم «البطل الذي يحظى بموقع الاستعلاء، نتيجة ما تمثله رمزية وجوده من آمال وأمان حبيسة لجمهور مسكون بما يشبه رغبة الطفل في الإشباع، تجاه أب متخيل صاحب قدرة على تنفيذ كل شيء في الاعتقاد السائد».
تختلف المجتمعات الإنسانية في تعاقبها التاريخي، ومن ثم مراحل تطورها المختلفة في تعاطيها مع صورة ونمط الزعيم أو القائد الضرورة في ما بعد.
وطبعا تختلف المجتمعات الإنسانية في تعاقبها التاريخي، ومن ثم مراحل تطورها المختلفة في تعاطيها مع صورة ونمط الزعيم أو القائد الضرورة في ما بعد، حيث اختلفت المسميات، ولكن الجوهر ثابت لا يتحول، فيؤكد الباحث بالقول «ليس كالمجتمعات المسماة تاريخية أكثر استعداداً وأشد ميلاً لاحتضان أجنة الزعامات السياسية ذات النمط /الكاريزمي/ التي بتفردها المصطنع تتخطى حواجز الواقع، وتتجاوز حدود المجتمع، لجهة ما ينظر إليها كرموز حية تجسد ما اختزنته الذاكرة من أساطير منسية، وما استوعبه المخيال الجمعي من ملاحم ضائعة، وعلى الرغم مما يشاع عن طابعها الراكد وعلاقاتها الاستاتيكية، إلا أن تلك المجتمعات سرعان ما تستعيد سردياتها المهملة لتبث فيها الحياة مجدداً». وفي هذا السياق الذي حدده الكاتب بربطه بين مناخ تشكل الزعامات السياسية والمجتمعات المسماة تاريخية، لا بد من التوجه شرقاً لإسقاط أبعاد هذه الدراسة، وهذا البحث على عالمنا العربي بالذات، والبحث في أثر الزعامة وتطورها إلى شكل من أشكال الاستبداد هناك، ورغم أن الباحث ثامر عباس لا يسقط دراسته هذه على المجتمعات الشرقية والعربية فقط، بل تحدّث بعموميات عالمية، منها ما هو غربي، ومنها ما هو شرقي، غير أن هذه الدراسة كانت أقرب في تصوراتها وتشخيصاتها إلى الشرق، خاصة العربي منه، لتطابق المواصفات، فهو لا ينفك في كثير من استنتاجاته عن الميل في إسقاطها على المجتمعات الشرقية، خاصة العربية منها، حتى لو بصورة غير مباشرة، لذلك يصف المفكر الايراني داريوش شايغان بأنه أصاب كبد الحقيقة حينما يقول «إذا كانت الأيديولوجيات قد أحرزت نجاحاً باهراً في العالم الثالث، فلأنها تقوم في عالمنا بالوظيفة ذاتها التي كانت تقوم بها الميثولوجيات في العالم القديم» ويضيف الباحث على هذا التشخيص وصفا عميقا للشرق بقوله «ولعل هذا هو الجانب الخفي الذي ضاعف من آماد تأخرها عن إدراك الركب الحضاري، مثلما عمّق من أبعاد تخلفها عن ولوج المعترك الحداثي، وهو الأمر الذي جمّد ديناميتها الذاتية، وأضعف ممانعتها الإرادية، وأوهن قدرتها من جهة، وجعلها من ثم عرضة للغزوات العسكرية، وهدفا للتدخلات السياسية من كل نوع من جهة أخرى». أضف إلى ذلك محاولة الباحث في استثناء المقدّس في الغرب «لم يعد مجسداً في العقائد ولا في أضرحة القديسين، بل في حقوق الإنسان».
بعث الزعيم
يحدد ثامر عباس في كتابه «تقديس الزعامة» سلسلة العوامل المسؤولة، والشروط التي تسهم في بعث شخصية الزعامة، التي كانت في العصور القديمة تعبر إلى هدفها من خلال سياقات وارتباطات ميثولوجية ترتبط مع شكل الدين بصلات متينة، لتتطور في ما بعد إلى شكل سياسي، بعد تراجع وضعف المعتقد الديني واللاهوتي، واقتراب الإنسان من شكله ونموذجه الحضاري، لتأخذ شكلا سلطويا سياسيا بحتاً لا يلبث طويلا حتى يتحول بوجه آخر إلى الشكل الاستبدادي.
ويرى الباحث أن الفترات التي تلي الحروب هي الأكثر ملائمة لبروز وتشكل الزعيم الديكتاتوري، ولا تأتي هذه النتيجة بشكل اعتباطي، حسبما يرى الباحث، ذلك أن المجتمع تكون له الباع الطويلة في خلق هذه الأنماط، بمعنى أن الزعامة موجودة بنسبة الكاريزما التي يحملها الزعيم بمورثاته الشخصية ولكنها لا تكفي، فيسبغ المجتمع صوره وإيحاءاته السايكولوجية المستمرة على صور الزعامات لتجعل منهم أبطالا مقدسين، بواسطة الرموز، وعلى شكل أيقونات، ويرتبط ظهور الزعيم حصرا بمرور مجتمع ما بحالة من الظلم واليأس، كما يرى الباحث في استناداته التاريخية «فكلما أصاب مجتمعا من المجتمعات ظلم ويأس شديدان، برزت إلى حيز الوجود فكرة البطولة»، ثم تستتبعها الخطوة الأهم في مراحل تشكل الزعيم، الذي دفعته الأحداث واختارته ليكون قائد المرحلة وزعيم الأمة، وهي مرحلة التخلص من البيئة الحاضنة «وبعد أن شرعت الجماعات المقادة تحيطه بمظاهر التقدير والإعجاب، حتى يبدأ بممارسة لعبة الانسحاب التدريجي من الأوساط التي نشأ فيها وظهر منها».
الزعامة موجودة بنسبة الكاريزما التي يحملها الزعيم بمورثاته الشخصية ولكنها لا تكفي، فيسبغ المجتمع صوره وإيحاءاته السايكولوجية المستمرة على صور الزعامات لتجعل منهم أبطالا مقدسين.
الإله المُنقذ
وأمام هذا التشخيص الدقيق لمراحل تكون الزعامة، فالقارئ لا يجد نفسه إلا وقد اتجه شرقا، وبالذات إلى أشكال الحكم والسلطة في العالم الثالث، حيث يسكن الاستبداد في شخصية الحاكم الذي وجد نفسه قد وصل إلى السلطة بصفات إلهية ومقدسة ذات طبيعة استثنائية عنوانها العريض هو، إنقاذ الأمة وبهذا الصدد يقول الكاتب «إن كثرة حدوث ظاهرة الكاريزما السياسية في بلدان العالم الثالث، ومن ثم شيوع أنماطها المصطنعة في المجتمعات النامية التي نالت حديثا استقلالها السياسي عن قوى الاحتلال الكولونيالي، دفع بالغالبية العظمى من الباحثين – من الشرق والغرب ـ إلى اعتبارها ظاهرة لصيقة بتلك المجتمعات وناتجا عرضيا من نواتج تخلفها الاجتماعي وتأخرها الحضاري، أو كما لو أنها لعنة ميتافيزيقية» ويستحق هذا التشخيص فعليا الوقوف عنده بالذات، إذا أدركنا حجم الزعامات التي ولدت من حركات انقلابية سلطوية في تلك الدول، خاصة في المؤسسات العسكرية إبان الاحتلال الكولونيالي منذ بدايات القرن المنصرم، وحتى منتصفه تقريبا، وهي مراحل بدء الاستقلال والتشكل القومي.
مفهوم الرعية
يبتعد الباحث كثيرا بمفهوم (الرعية) عن سياقها التقليدي المستمد من الحديث النبوي «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» فهو يفتح لرؤية نقدية وتفسيرية أخرى لا تقوم على مبدأ المساواة المثالية بين الراعي والرعية، كما هي في الحديث السالف، بل رؤية ترفع من قيمة الراعي إلى مصاف عليا، بينما تحط من قيمة الرعية إلى مستويات دنيا، مستندا في ذلك إلى الإشارة إلى (مصادر الآداب السلطانية) المتوافرة في تراث العالمين الغربي/المسيحي ونظيره الشرقي/ الإسلامي، قائلا «تغدق تلك المصادر على – الراعي – فضائل الأنسنة والعقلنة من جهة، وتضفي على – الرعية – رذائل الحيونة والزعرنة من جهة أخرى، من منطلق أن شخصية الزعيم هو بمثابة الراعي الذي يتكفل شؤون رعيته ـ غنمه ـ في المجالات الدينية والدنيوية، على حد سواء، مثلما أن الرعية هي بمقام – الأنعام- التي تحتاج إلى من يوفر لها الحماية ويقودها إلى مضارب الماء والكلأ». مستشهدا في الدلالة على ذلك بالمفكر محمد عابد الجابري الذي يقول: بسبب كثرة الاستعمال فإن – الرعية- تعني في اللغة العربية نفسها الماشية، وقليلا ما ننتبه إلى أن ـ الراعي ـ عندنا هو الواحد الأحد، فإذا ما تساءلنا في هذا السياق عن قدرة وحرية أحد أفراد الرعية في أي شكل فعلي من الاقتراب والمنافسة على دور الحاكم السياسي، في ظل وجود ما يسمى الزعيم، فإنه سيكون بمثابة الكفر والإلحاد بالمفهوم الديني، لقناعات الزعيم ـ القائد بأن الأعمال المتميزة والأفعال الاستثنائية، هي من اجتراح الأشخاص لا الجماعات والأفراد، وهذا ما يفسر لنا غياب دور الحزب السياسي بشكله الصحيح في عالمنا الشرقي والنكوص والاقتصار على قبول الشكل (الزعيم)، ذلك أن من ينتحل شخصية المقدس ويتلبسها، لا يمكنه بأي شكل من الأشكال قبول مشاركة دور البطولة مع شكل حزبي أو جمعي آخر، بل البقاء بشكله المتفرد والمترفع عن طقوس وأشكال التقليد في الجماعة، كذلك فإنه في المجتمعات الغربية، نجد أن هذه المجتمعات تعلق آمالها في التطور والتقدم على الأحزاب السياسية وبرامجها الانتخابية، بينما في المجتمعات الشرقية ـ العربية فإن المجتمعات تعلق هذه الآمال على شخص بعينه فقط وهو (الزعيم).
يشترك القارئ مع الباحث في تحليل وتفكيك صور هذه الزعامات ويُسّقِط من خلالها القارئ تحليلات الباحث على صور (الزعيم) وفهمها.
في هذه الدراسة البحثية المعمقة ينجح الكاتب في العبور إلى ذهنية القارئ وإشعال المخيلة لتحريكها وتفاعلها لجهة خلق واستذكار الصور المتراكمة لكثير من الأسماء والزعامات التي غابت بفعل الزمن، أو التي ما زالت قائمة حتى الآن، ليشترك القارئ مع الباحث في تحليل وتفكيك صور هذه الزعامات ويُسّقِط من خلالها القارئ تحليلات الباحث على صور (الزعيم) وفهمها، كذلك يأخذ الكتاب شكلا مرجعيا مهما في طرق تناوله لتشريح بنيوية الشخصية السلطوية – القيادية من الداخل، فالباحث بناء على نتاجاته الفكرية يتخصص بدراسات التحليل الاجتماعي وانعكاس تأثير السلطات المختلفة وتأثير الآخر على المجتمعات، كما يرد في عنوان كتابه الثاني الصادر في 2018 بعنوان «الأنا وجحيم الآخر.. ديناميّات العنف في المجتمعات المتشظية»، الذي يستقصي من خلاله جذور ظاهرة العنف في المجتمعات المأزومة سياسياّ والمخترقة حضاريا، وبذلك يأتي اختياره لأهم محورين يعاني منهما الواقع السياسي والاجتماعي في العالم العربي، وبالذات بعد حركات الربيع العربي، وهما الاستبداد المتمثل بشكل (الزعيم) في كتابه الأول، وديناميات العنف في كتابه الثاني.
٭ صحافي سوري
اذا اسقطنا محتوى الكتاب على عصرنا الحالي وعالمنا العربي
فهو بالتاكيد يفسر كيف رغب الحكام المستبدين في ايها الشعوب المطحونة بأنهم ذوات فوق بشرية ترتقي الى الالهة أو في حدها الأدني – انبياء ورسل – تحتكر الحكمة والفلسفة والحقيقة
كانت البداية منذ ان استولى العسكر على الحكم في مصر منذ عبدالناصر وصولا الى السيسي – فضلا عن عسكريين نصبوا انفسهم كزعماء تحت زعم التحرر الوطني والقضايا القومية كأسد سوريا الاب والابن – وقذافي ليبيا – وصدام العراق – وصالح اليمن – وبومدين وبوتفليقة الجزائر – وبورقيبة وبن على تونس .. الخ
فضلا عن الحكم الثيوقراطي او العائلي في ممالك الخليج ..
الخلاصة .. اننا كمنطقة عربية موبوئين بالحكام الآلهة .. ولن نتخلص من هذه التابوهات الا بعودة الوعي وتكسير الاصنام المقدسة
استمتعتُ كثيرا في قراءة تحليلك الرائع بهذا الأسلوب الجميل الشيق ..
ننتظر المزيد ..
أنصح بقراءة المقال