«في زمن ما/ كان يحدث هذا الحيف الذي تخونني اللغة فيها
أما الصمت/ فربما كان ولا يزال.. أكثر حيفاً وخيانة»
لابد من كسر الصمت حتى لا نشعر بالخيانة لأنفسنا، ولأجيالنا القادمة. فالصمت ليس أبلغ من الكلام. ويجب أن نحكي قصتنا مع السجّان وأفعاله اللامعقولة تجاه المعتقلين السياسيين وغيرهم. فالسجن في سوريا، زمن البعث، مأساة وموت باللحم والروح. أعطيناهم أعناقنا واللحم ليخنقوه، من أجل أن نحافظ على الحلم، وهم لا يسمحون حتى بالاختيار المرير بين لحمك وحلمك، فهم يريدونك مسلوخاً من رأس قدمك، حتى أخمص ماضيك. ومشكلتك الوجودية الكبرى كإنسان هي، عجزك عن أن تكون مهزوماً. والمؤلم، اتهام اللغة بالخيانة، وأصالتها بالتعبير، وأنها مخذولة وعاجزة عن أي مقاربة مقنعة بما تنوء به أيضاً، حتى اللغة يا إلهي.
تحكي وثيقة التغريبة للشاعر فرج بيرقدار، بشكل شاعري وممتع، عن رحلته داخل السجن التي استمرت لأربعة عشر عاماً، بفعل انتمائه إلى حزب «العمل الشيوعي» المعارض، الذي تخلى عن شعار «إسقاط النظام» في 1980، واستبدله بـ«دحر الديكتاتورية» كي لا يكون الإسقاط تغطية لأفعال «الإخوان المسلمين» الظلامية التي تقاتل النظام بالسلاح لإسقاطه في ثمانينيات القرن الماضي.
وكان ورق السجائر هو الدفتر الذي كتب فيه الشاعر أحاسيسه ومشاعره وملاحظاته، وبمساعدة أصدقائه داخل السجناء الذين حفظوا أشعاره، حيث كان القلم والورقة ممنوعين في السجون السورية. وكان له الرقم «13» وهو الرقم المشؤوم، حيث يوصف السجناء بالأرقام، أو بالألقاب الازدرائية.
(1)
أشعر بالارتباك تجاه كتابة هذه المقالة. فالوثيقة مليئة بالشعر. وهل يمكن إعادة صياغة الشعر بالنثر، بحيث لا يفقد الشعر جماليته؟ وما تقرؤونه قد ينطوي على قدر غير قليل من اللاعقلانية والعبث والتناقض والغموض واليأس والدم والقداسة والموت والجنون واللا معنى. هناك خارج المهجع أمواج متكسرة من الصراخ والوهم والشتائم والاستغاثات، في محيط من التوجس الذي تمزقه السياط، وهي تشهق وتزفر بمنتهى الشهوة واللؤم والاستفزاز. ترافق اعتقالي مع زمامير السيارات، وضحكات «الشبيحة» الأمنية، وإطلاق الرصاص، لماذا يبتهجون كل ذلك بسبب اعتقالي؟ كأنهم حرروا الجولان المغتصب؟ وتم سوقي إلى فرع فلسطين، التابع للأمن العسكري، الذي لم تقتصر مهمته على الفلسطينيين فقط، إنما شمل كل البشر الذين يتنفسون المعارضة ـ نساءً ورجالاً من كل الأصناف. وبدأت أدعو لأمي كي تساعدني، فأنا يا أمي أيها الحب والحزن واليأس، فأنا في دوامة التعذيب والقتل غير المشروع.
واكتشف أن الشعر هو طائر الحرية الجميل، وهو الطائر الأقصى على الحرية، وليس قابلاً للأسر، وقد حررني داخلياً من جدران وأنفاق وجنازير وأقفال. ولو كان سياسياً فقط يمكن أن ينهزم، لكن الشاعر في داخله أنقذه، وأعطى لحياته في السجن معنى مختلفا وقيمة نضالية لا توصف. فالسجن زمنٌ عاطل، ودنس.. وغير أخلاقي، وهو المكان الذي تحجز فيه الحرية، وأي سجين يتلهف إلى فلسفة واحدة، هي الحرية ولو بحدودها الدنيا، في أوان الفرح، وفي آخر الحزن.
وأنت «ليس لك إلا أن تقبض بيديك على جمر الحلم، وتطأ بقدميك على جمر الواقع، وفي صدرك جمر كثير، يحرس قلبك في الليل، ويوقظه في الصباح. لكي لا تنسى أن الله ليس شيئاً آخر غير الغياب في أقصى تجلياته».
( 2 )
إنهم يدقون لحمك وعظامك في تلك الأجران الجهنمية. يستحيل أن يكون أصل الإنسان قرداً أو حتى شيطانا. ذلك الذي يتفصد شهوة للافتراس، وينتعش منتشياً بالبشاعة، وزنخ الروح، وانعدام الرحمة، ما الذي يبتغيه من هذا المزاد الدموي الطاغي؟ فالسلم لأجل الصعود، لكن أن تكون عليه ورأسك مقلوب للأسفل ويجلدونك بالأفاعي، إنه الجنون الهندسي المرعب. والكرسي النازي وليس الألماني حتى لا يتم الإساءة للشعب الألماني، حيث يجلس الكرسي على المرء وليس العكس من أجل كسر العمود الفقري. والدولاب وتوسيع حدود الكون، والصعق بالكهرباء، حيث تحدث تموجات كخروج الروح مترافقة مع العواء المقلوب. وسنضيف أيضاً، ربط الخصيتين بالمطاط لوقف الذرية، وحقنة الهواء للموت السريع، بدون آثار للتعذيب. والكلبشات الإسبانية اللامعة، لكنها في منتهى اللؤم، ألم يجدوا طريقة أخرى لرد الجميل لأجدادنا الذين احتلوا بلادكم؟
(3 )
والنقل إلى تدمر «مأساة الموت» كعقوبة لآرائنا باستبداد النظام، حيث كنا قامات مهدمة، وتتكئ على الكبرياء. وفي «التشريفة» كل الأشياء مقلوبة، وحتى الآلهة عاجزة ومجللة بالعار. وحده الموت يقف عابساً، والكرابيج تشخط الهواء على الأجساد العارية، التي تصدر الأنين المخطوف وتتخلله شهقات دامية متقطعة.
وكانت لتدمر أسوار عالية، وحواجز، وحقول ألغام، ونقاط تفتيش، وحتى لو سقطت سوريا بكاملها فإن هذا السجن لن يسقط، خاصة أنه يضم عناصر التعذيب والموت. فالعسكري الذي يأمر سجيناً أن ينظف جزمته بلسانه، ثم يصفعه بالجزمة على وجهه، كأنه قادر على إغلاق جبهة بمفرده. وعسكريان يمسكان بسجين من يديه ورجليه ويؤرجحانه ثم يطوحان به في الهواء، حتى تستريح الجثة على أقل من مهلها. وبمطرقة كبيرة يهوي العسكري على العمود الفقري لسجين، بحيث أصبحت صرخة السجين تتماوج مع مسحة ضبابية تتموج بارتعاشات صغيرة متناهية. وآخر يهوي بجسده على عنق سجين، وآخر يجبر سجين على أن يمضغ فأرة ويأكلها كطعام. يا إلهي، إنها لوحة بانورامية مذهلة، لا «غيرنيكا» ولا الآلهة، ولا الأساطير تتضمن ذلك.
وأن ترفع رأسك يعني أنك ترفع نعشك، وكنا نميز العساكر من أشكال أحذيتهم. ونطلق عليهم أسماء تبعاً لتصرفاتهم الهمجية. وأضربنا عن الطعام لمدة أحد عشر يوماً، ونجحنا بعد أن تم تأمين الكتب وقواميس اللغات، وبابور الكاز والجريدة. لكن إضرابنا الثاني من أجل الزيارة فشل، وعشنا بعده في مستنقع: عجز، وإحباط، وكآبة، وزهد، وغثيان. وكان التضامن بيننا إلى حد الموت، والتشاحن بيننا إلى حد السباب والضرب والهستيريا، حيث كان السجن أشبه بمجتمع مليء بالحنين والشكوى والنميمة، وكذلك بمجتمع روماني مخضب بزئير الوحوش الكاسرة، والدم وصرخات الأسرى. ومن «الشراقة» وهي فتحة في السقف، كنا نرى سروتين، تتهادل عليهما حمامتان عاشقتان، واحدة أكثر سواداً من آلامنا، والأخرى أكثر بياضاً من أحلامنا. وكنا نرى القمر بضع مرات، ونحمله ما نشاء من الرسائل والوصايا.
(4)
السجن ذكورة افتراسيه قصوى، والحرية أنوثة رحمانية قصوى/باختصار تصبح تاء التأنيث الحرف الأجمل في دنيانا /بدون المرأة ورائحتها لا يكون الرجل إنساناً /تصبح المرأة معادلاً رمزياً وإنسانياً وفنياً للحرية، بل تصبح المرأة هي الحرية. لكن للبنت الصغيرة التي لم تتجاوز السنة الخامسة، التي لم يتم اعتقالها مع أمها، وضعها الخاص، حيث بدأ يشعر بالمرارة لوجود البنت وحيدة، في الهواء، ومع النزق الشاعري طالب باعتقالها إلى جانب أمها، لأن عدم اعتقال البنت جريمة، وظل يشعر بأنه أب إلى حد البكاء.
(5)
لقد شعر فرج بيرقدار بالحرية في السجن، وكان أكثر استعداداً للتضحية والثورة. وتعلم الحرية، وحقق نشاطاً ثقافياً بفضل السجن، ومعرفة بالواقع والحياة، خاصة في سجن «صيدنايا» حيث أصبح لديه العديد من الأصدقاء. وكيف ضرب عسكرياً رداً عليه، حيث ساد الصمت في المكان، ولم يتجرأ أحد على معاقبته. وكيف ضحكوا عندما طالب العسكري بـ«مهدي عامل» للنزول إلى المنفردة. وكيف قدم مرافعته في المحكمة، «دفاعاً عن الحرية» حيث إن قانون القوة الذي يستخدمه النظام بدلاً من قوة القانون، سينهزم، وتنهزم معه السجون، وأنه لا شرعية لمحاكمكم والقوانين الاستثنائية وقانون الطوارئ، إلخ.
«خمسة عشر عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية». يا أبناء الدم، خمس عشرة بلطة ماجنة لترويض طيور الكلام، أي جريمة ارتكبنا؟
بأحذيتهم يحاولون محو ماضيك، وبأسنانك وأظافرك تحاول أن تتشبث بالزمن والذاكرة والأحلام.
(6)
تدور أحلام السجناء حول فلسفة الحرية. لكن هذه الفلسفة منقوصة، طالما الاستحباس هو الهدف لقتل الزمن. وطالما أدب السجون ينصب على التعذيب وأشكاله المتعددة. ورغم أن الاعتقال غير شرعي، ويفتقر إلى القانون، إلا
أن الإضرابات التي حصلت داخل السجون هي من أجل تحسين شروط الاستحباس غير الشرعي. ولا يوجد إضراب واحد من أجل الحرية، من أجل إلغاء التوقيف التعسفي، ضد قانون الطوارئ. وهذه نقيصة كبرى في حياة السجناء السوريين، الذين يقضون عشرات السنين بموجب قانون الطوارئ، المخالف لأنظمة الدستور، حيث لا تصبح فلسفة الحرية ذات معنى بدون هذا الإضراب الذي يجسّد بشكل عملي رفضاً له كما نرفضه على الصحف وفي بياناتنا الحزبية المتعددة.
كاتب سوري
عزيزي فرج ، ألف مبروك ..شوق عارم لجلسة معك وفنجان قهوة ودردشة تبدأ ولا تنتهي . معزّتي وتقديري . بيتي الآن في لاهاي لكن “لا بُد من ليدن وإن طال السفر “.