كرامة المعلّم من كرامة الشعب…

حجم الخط
17

لا يكاد بلد في العالم يخلو من إضراب للمعلمين بين حقبة وأخرى، وذلك لتحسين وضعهم المهني ورفع رواتبهم، باستثناء دول مثل الصين وكوريا الشمالية وبعض الدكتاتوريات التي لا تسمح بالإضرابات أصلاً.
يختلف إضراب المعلمين عن غيره من الإضرابات في الوظائف أو المهن الأخرى، لأن إضراب المعلمين يشمل إضراب مئات آلاف وأحياناً ملايين الطلاب معهم، وهذا يعني شلّ مرافق أخرى كثيرة تخدم الطلاب وجهاز التعليم، وإذا كان سلاح الإضراب في قطاعٍ ما يسبب خسائر مادية محدّدة، فإن إضراب المعلمين يؤدي إلى خسائر معنوية وروحية، وله إسقاطاته على كل أسرة، ومن ثم على البلاد بأسرها.
الدول الأكثر تقدماً في العالم تمنح سلك التعليم أهمية قصوى، وهذا ينعكس على حصة التعليم من الميزانية العامة، ويشمل البنية التحتية والطلاب ورواتب المعلمين.
لا شك أن للمال والمادة أهمية وأولوية في حياة الناس، إلا أن هذا التوجه بالذات ينتقص من قيمة مهنة التدريس، لأن البضاعة التي يقدمها المعلم لطلابه لا تقدّر بمال، فالشعب كله مدين بثقافته وعلومه ووعيه وتقدمه للمعلمين، وهذا يعني كلما استثمرت الدولة في المعلم أكثر كان الحصاد في المحصلة أفضل للبلد كله، وليس للمعلم فقط.
بعض الأهالي ينظرون إلى التعليم كمهنة سهلة، ويرون بأن المعلم يقضي النهار كيفما اتفق ولا يهمه سوى راتبه، ولهذا هناك حاجة ماسة لتذويت مهنة التعليم لدى الأهالي.
على كل والد أو أم أن يتخيّل نفسه واقفًا أمام عشرات الطلاب في كل حصّة، ومئات الطلاب في اليوم الواحد، يشرح لهم درساً، هذا يستمر على مدار عشرة أشهر من العام، ثم لثلاثة وحتى أربعة عقود وأكثر.
كل طالب وطالبة من هؤلاء لديه قدرات مختلفة عن غيره في الاستيعاب، وكل واحد منهم يأتي من بيئة أسرية مختلفة، ومن غلاف نفسي مختلف، بعضهم وحيد أهله، انتظروا طويلاً حتى رزقوا به، فدلّلوه حتى أفسدوه، وبعضهم آخر العنقود، مدلّل وحسّاس جداً، لا يطيق أن ترفع صوتك عليه، وآخر هو الابن البكر للأسرة، يعتبره والده رجلاً بالغاً ويرفض معاملته كطفل، يريده رجلاً قبل أوانه، وآخر يتيم فقدَ أحد والديه أو كليهما ويعاني من حساسية كبيرة في التعامل معه، وذاك ابن مسؤول زيّن له والداه بأنه مختلف وعلى رأسه ريشة، وذاك من أسرة غنية فهم من بيته أن المال هو القيمة العليا وأهم من التعليم نفسه، ومعك قرش تساوي قرشاً، وآخر من أسرة فقيرة جداً، ويحتاج إلى احتضان واهتمام أكثر كي يشعر بأنه ليس أقل من غيره.
يعتقد معظم الأهل بأن العقاب يمس بشخصية ابنهم ويحبطه أمام الآخرين، لهذا يغضبون عندما يعلمون بأن مدرّساً وبّخ ابنهم أو ابنتهم، وقد يأتي بعضهم إلى المدرسة التي لا يزورها أبداً إلا في حالات الطوارئ، يأتي غاضباً ليوبّخ المعلم والهيئة التدريسية، فيكسر روح المعلم ورغبته في العمل، ويضعه بين نارين، أن يرد أو لا يرد، وقد يكون هذا أمام الطلاب الذين يرون في توبيخ المعلم عملاً مسلياً، ما يؤدي إلى استهتارهم به، أو يثير شفقتهم عليه، وهذا أيضاً يسبب ضرراً كبيراً، ويؤدي ببعض الطلبة وخصوصاً الثانويين إلى استسهال ممارسة العنف ضد زملائهم وضد المعلمين.
في الوقت الذي يكون فيه ذوو الطالب في عملهم أو في البيت، يكون الأبناء في رعاية المعلمين، فهم مسؤولون إلى جانب تدريسهم عن سلامتهم وحمايتهم من عنف بعضهم بعضاً ورعايتهم، حتى عودتهم إلى بيوتهم سالمين.
من المؤكد أن الضجة التي يثيرها الأبناء في البيت تزعج ذويهم، ولدى الأهل قدرة محدودة على تحمّلها، بعد ساعة يطلبون منهم الهدوء، ولا يستطيعون مجاراتهم في ألعابهم وطلباتهم وتصرفاتهم وضجيجهم، وأسهل وسيلة يتعامل فيها الأهل هي أن يطلبوا منهم الهدوء، أو إرغامهم على الهدوء، وربما إرسالهم إلى بيت الجد والجدّة، بينما يعيش المعلمون ساعات وسنين في كل يوم مع الأبناء وفوضاهم وصراخهم ومشاكلهم اليومية المتراكمة يومياً.
لا شك أن هناك معلمين غير ناجحين في مهنتهم، خصوصاً أولئك الذين يضطرون لاستخدام التهديد والصراخ للسيطرة، أو أولئك الذين لا سيطرة لهم على الطلاب بسبب ضعف في شخصياتهم، لهؤلاء نقول إن لمهنة التدريس أناسها وأهلها، فهم صبورون وأكثر جلَداً من الآخرين، ولا يمكن لطالب أن يستفزهم بسهولة، وإذا نجح طالب باستفزاز أحدهم، فهذا يعني أنه تجاوز كل حدود، أما من لا يطيق فوضى الطلاب وسذاجتهم، ويضع نفسه في مواجهة معهم بدلاً من احتضانهم واستيعابهم، ويسعى لاستعراض عضلاته وبطولاته وبأسه عليهم، فمكانه ليس في سلك التعليم.
هناك معلمون يعملون في مهن أخرى في أيام العطل أو بعد الدوام، إضافة إلى مهنة التدريس، هذا يمس بشخصهم في نظر الطالب، وقد يجعلهم مقصّرين في عملهم الأساسي، خصوصاً إذا كان أحدهم مديراً ومسؤولاً عن مئات الطلاب، وعرفت مثل هؤلاء ممن تاجروا في كل شيء، كان الفشل من نصيب المدرسة والطلاب حيث يوجد هذا الصنف من المديرين، ولهذا يجب منع المعلم من ممارسة مهنة إضافية، ما دام قد اختار العمل في سلك التعليم.
بمناسبة يوم المعلم الذي وافق الخامس من أكتوبر/تشرين الأول، نتذكر كل معلم طيّب يقدم كل ما يستطيع لأجل طلابه، ونقول كل عام وأنتم بخير، كذلك نبارك لمعلمي الأردن حصولهم على معظم مطالبهم وعودتهم إلى العمل معززين مكرّمين، وهذا ما نتمناه لجميع المعلمين في الوطن العربي، فكرامة المعلم من كرامة الشعب والوطن. أما معلمونا في مناطق 48، فمسؤولياتهم كبيرة، إضافة إلى مهمة التعليم يتحملون على كواهلهم مسؤولية قومية ووطنية، مثل الإضراب الذي جرى قبل أيام احتجاجاً على إهمال السلطة في مكافحة العنف في الوسط العربي، حيث طلبت لجنة المتابعة إضراب المدارس، بينما طالبتهم الوزارة أن يحضروا إلى المدارس وفتحها، وهذا ما يحدث في جميع المناسبات الوطنية، كذلك عليهم العمل بذكاء أمام طلابهم لفضح منهاج الوزارة الإسرائيلي الذي يزوّر التاريخ ويقدمه بما يطابق الرواية الصهيونية، والعمل على تعديله شفوياً على الأقل لإظهار الحقائق التاريخية المشوّهة، وإنشاء جيل معتز بنفسه وشعبه وقوميته.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل مطران:

    لعلي أذكر الأستاذ سهيل والأحبة المعلقين بشاعر فلسطيني زمن الانتداب البريطاني اسمه إبراهيم طوقان شقيق الشاعر المعروفة فدوى ..
    امتهن إبراهيم مهنة تدريس اللغة العربية وعانى من تدريسها ما عانى ,له قصيدة طريفة يحكي فيها عن معاناته:

    شوقي يقول وما درى بمصيبتي *** “قم للمعلم وفّــه التبجيلا

    أقعد,فديتك هل يكون مبجلاً * * من كان للنشء الصغار خليلا!!

    ويكاد يفلقني الأمير بقوله * * * “كاد المعلم أن يكون رسولا”!!

    لو جرّب التعليم شوقي ساعة * * * لقضى الحياة شقاوة وخمولا..

    حسب المعلم غمّة وكآبة * * * مرأى الدفاتر بكرة وأصيلا..

    1. يقول Omar - Algeria:

      يقول الشاعر الفلسطينـي إبراهيـم طوقـان :
      شوقي يقول وما درى بمصيبتي *** قـم للمعلـم وفّـه التبجـيـلا
      اقعد فديتك هـل يكـون مبجـلاً *** من كان للنشء الصغار خليـلا
      ويكاد يفلقنـي الأّميـر بقولـه *** كاد المعلـم أن يكـون رسـولا
      لو جرّب التعليم شوقي ساعـة *** لقضى الحياة شقـاوة وخمـولا
      حسـب المعلـم غمَّـة وكآبـة *** مرآى الدفاتـر بكـرة وأصيـلا
      مئة على مئة إذا هـي صلِّحـت *** وجد العمى نحو العيون سبيـلا
      ولو أنّ في التصليح نفعاً يرتجى *** والله لـم أكُ بالعيـون بخيـلا
      لكـنْ أصلّـح غلطـةً نحويـةً *** مثـلاً واتخـذ الكتـاب دلـيـلا
      مستشهـداً بالغـرّ مـن آياتـه *** أو بالحديـث مفصـلاً تفصيـلا
      وأغوص في الشعر القديم فأنتقي *** ما ليـس ملتبسـاً ولا مبـذولا
      وأكاد أبعث سيبويه مـن البلـى *** وذويه من أهل القرون الأُولـى
      فأرى حمـاراً بعـد ذلـك كلّـه *** رفَعَ المضاف إليـه والمفعـولا
      لا تعجبوا إن صحتُ يوماً صيحة *** ووقعت ما بين البنـوك قتيـلا
      يا من يريـد الانتحـار وجدتـه *** إنَّ المعلـم لا يعيـش طـويـلا

  2. يقول رسيله:

    مساء الورد لك كاتبنا ولجميع القراء ، مقالتك الرائعة اليوم زادتني فخرا على فخر بمهنتي وجعلتني اكثر اعتزازا فامتناني الكبير لتقديرك الرائع.
    ان التعليم رسالة مقدسة باعتبارها ركيزة أساسية في تقدم الدول وسيادتها لما لها الأثر العظيم في بناء العقول وتحريرها من الجهل والجمود وتطويرها والنهوض بالشعوب ، لا يقتصر عمل المعلم على نقل المعرفة وإنما هو الضياء الذي ينير للناشئة طريقها ويقود أفراد هذا المجتمع للرقي. ومهنة التدريس عسيرة وشاقة معقدة وشائكه تستوجب ان يكون المدرس خبيرا نفسيا اجتماعيا وتربويا مرهف الحس محبا متقبلا مراعيا لحاجات التلاميذ العقلية والعاطفية والنفسية كاشفا عن رغباتهم وميولهم وقدراتهم ومتفهما لمشاغباتهم
    ولحالاتهم العصبية والمزاجية المتقلبة
    هذا أضف الي أهمية ان يكون المعلم مبدعا خلاقا متجددا لكي لا يكون ممللا يكرر ذاته، وكل ذلك يتطلب جهدا ذهنيا وبدنيا كبيرا.( يتبع)

  3. يقول رسيله:

    ( تكمله ثانيه )ان معلما يعمل بكامل المهنية والمصداقية لن يكون إلا مثلا أعلى للطلاب وذويهم وستنحني له الرؤوس تقديرا واحتراما وستبقى ذكراه خالدة بعد عقود وسيقال والله كان لذلك المعلم دورا كبيرا في اعدادي وتنشئتي.
    فالمعلم رسول لأنه يتعاطى مع أنفس وأرواح وعقول يبنيها لتنتج إنساناً متعلماً متفكراً متدبراً فهو عند التربويين بمنزلة أعلى درجة من الوالدين وقد انصف الإمام الغزالي المعلمين قائلا ُّ:”حق المعلم أعظم من حق الوالدين، فإن الوالدين سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية فأبو الإفادة أنفع من أبي الولادة .”
    هذا وتعتبر مهنة التعليم بالمهنة الأم، لأنها المهنة الأساس للمهن الأخرى، فالطبيب والطيار وغيرهم لا يصبحون كذلك إلا بتلقي دراسات في تخصصهم على أيدي معلمين سواء في المدارس أو الجامعات، ولا يشك أحد أن كبار المخترعين والعلماء وعظماء العالم لم يصلوا الى هذه المرحلة إلا عن طريق معلمين أكفاء أناروا لهم الطريق ووجهوهم التوجيه السليم وأثروا في شخصيتهم وجعلوهم صناعا لأهم أحداث الحياة وجعلوا بلدانهم في الصدارة( يتبع )

  4. يقول رسيله:

    ( تكمله اخيره ) وقد قيل (وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة، ووراء كل تربية عظيمة معلم متميز).
    سهيل كيوان المتميز لقد انصفت المعلمين في كل مكان واشكر لك كثيرا تطرقك لقضية الازدواجية في تعامل الدولة مع إضرابات المعلمين في الداخل الفلسطيني فنحن واقعون دائما بين المطرقة والسندان.
    كاتبنا العزيز أجدت وأفدت وابدعت ووضعت النقاط على الحروف انار الله فكرك الرائع وشكرا جزيلا تقديرك لعملنا كمعلمين ومربين.

  5. يقول Nazeera:

    لا يسعني هنا الا ان اقف موقف أم وانحني لكل قلم يخص المعلمين والمعلمات بكلمة شكر ..
    دمت بخير

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية