كرة القدم أولا… أم الخبز أولا!

لم يلتفت أحد إلى فقراء بلاده عندما أعلنت مجموعات إعلامية احتكارها بث المونديال، فقد كان الكل يلوم حكومته على رفضها تدبير بعض “ملايين الدولارات” للحصول على حقوق بث أكبر تظاهرة كروية في الكون، ووقتها، كان سحر الكرة ينسي الشعوب مشاكلها العويصة بحثا عن متعة لا تتكرر إلا كل أربع سنوات.
الآن، لو طرحنا سؤالا مباشرا، هل الأهم بالنسبة إلينا اللهث وراء ممارسة كرة القدم وتحقيق النتائج، أم ضمان وصول الخبز والغطاء لكل مواطن؟
واقعيا وبعيدا عن التنميق الذي يطبع رؤيتنا للأمور، فإن الجواب الحقيقي الذي يخالجنا جميعا هو نعم، نريد كرامة العيش لكل مواطن، قبل أن نصحب ذلك بلازمة نؤمن بها جميعا حد الاعتقاد “لكن لن يقع شيء لو أجَّلنا ذلك بعض الشيء إلى غاية مرور المونديال”.
عندما قررت المجموعة الإعلامية “إي آر تي” حرمان الدول العربية من متابعة كأس أمم إفريقيا 2006 بمصر، طغى النقاش بالمغرب حول متابعة مباريات المنتخب الوطني وصيف بطل الدورة السابقة على كل شيء، وتناسى الجميع للحظة بعض المآسي المحيطة بنا، وبدأ البعض يشير برعونة إلى أن انسحاب عرب إفريقيا من المنافسة هو الرد الأكبر على مجموعة الثري السعودي صالح كامل، في حين كان أكثر العقلاء لا يجد حرجا في القول “المهم أن نتابع البطولة بأي شكل من الأشكال وما على القنوات الوطنية سوى الدفع”. ووسط حمأة هذا الصداع، طلعت علينا وكالة المغرب العربي للأنباء قبيل ساعات من انطلاق المنافسات بقصاصة إخبارية تعلن تدخل الملك محمد السادس شخصيا من أجل ضمان نقل المنافسات للمغاربة، في إشارة واضحة إلى أن الأمر أصبح من القضايا الحساسة للبلاد، وحينها لم يكن مُهماُ تحليل مسلسل تكريس الموقع المركزي للملك في النظام السياسي المغربي على حساب باقي الفاعلين، فقد انصرف الجميع إلى البحث عن برنامج المباريات أو اقتناء جهاز تلفزيون يليق بالحدث القاري.
وسط تباين المواقف حول من له الأسبقية، الكرة أم الخبز، نجد أنفسنا أمام طرح علمي أكثر وسطية وموضوعية، فنحن نريد عدالة اجتماعية وكرامة لكل مواطن، وفي نفس الوقت نريد الرياضة بشكل عام ممارسةً ونتيجةً وشغفا باعتبارها مقوما إنسانيا لا محيد عنه، والحل لهذه التوليفة هو انصهار كل ذلك في مسلسل من التنمية الشاملة، فبلد معافى اقتصاديا واجتماعيا لا يمكن إلا أن يقدم لك منتوجا رياضيا منسجما، وحتى في غياب الألقاب والنتائج، فإن ذلك على الأقل يضمن للمواطنين والمرخصين ممارسة رياضية سليمة ومنظمة.
المهدي المنجرة، التحفة المغربية التي رحلت عنا قبل سنوات في صمت رهيب، هو واحد من الباحثين القلائل في العالم الذين اشتغلوا على مؤشرات محددة تضمن نسبا كبيرة من حظوظ التتويج بالألقاب، فقد ربط بين نتائج مختلف الدول في أولمبياد لوس أنجلوس سنة 1984 وبين ثلاثة مؤشرات اجتماعية واقتصادية، هي الدخل الفردي للساكنة ونسبة محاربة الأمية والأمل في الحياة. وخلص عالم المستقبليات إلى أن من بين 140 دولة مشاركة ظهرت منها 47 دولة في جدول الميداليات، وهي في غالبيتها دول متقدمة لها مدخول فردي هو الأعلى في العالم ونسبة تعلم تتراوح بين 99 و100%، ومعدل أعمار بين 73 و76 سنة، وعدا بعض الاستثناءات النادرة، التي يندرج ضمنها المغرب الفائز حينها بميداليتين ذهبيتين، فإن الفوز بالميداليات يتطلب أولا كسب رهان التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
هذا الطرح يتماشى مع خلاصات المفكر والعالم الرياضي الروسي ماتفييف في كتابه “Fundamentals of sports training”، فهو يرى أن نتائج التحليلات الإحصائية الاجتماعية تؤكد أن الإنجازات الرياضية الأولمبية، باعتبارها أرقى المناسبات الرياضية، ترتبط ارتباطا كبيرا بمؤشرات الوجود الاجتماعي للإنسان، فالدخل القومي ومتوسط دخل الفرد يحيل مباشرة على أن الرياضة تحتاج إلى تسهيلات وأموال للصرف عليها، والسعرات الحرارية الغذائية للفرد العادي هي أساس جوهري للارتقاء بالرياضة بدنيا، ومتوسط عمر الفرد هو مؤشر دال على مستوى الوعي الصحي والخدمات الصحية التي يتلقاها الفرد، أما العدد الإجمالي للأميين من السكان فتأثيره يظهر من حيث أن الرياضة الحديثة تتأسس على المعرفة وسهولة تدفق المعلومات.
مجددا نعود لسؤال الخبز أم الكرة أولا، صحيح لا يمكن إقصاء كرة القدم من المعيش اليومي لأغلب المواطنين، لكن الأمل أن تكون الرياضة ضمن مشروع تنموي شامل يستحضر جميع المجالات الاجتماعية. قد تكون الأولوية للكرة بشكل خاص والرياضة بشكل عام في حالة واحدة، إذا كان ذلك مندرجا في إطار تصور واضح يمنح للممارسة الرياضية القدرة على حل مشاكل اجتماعية واقتصادية، فرياضة مندرجة ضمن قطاع مهيكل بإمكانها امتصاص نسبة مهمة من البطالة وأيضا خلق دورة اقتصادية مهمة، إلى جانب تحقيق التلاحم والانسجام الاجتماعي. ولمن ما زال يساوره شك، نشير إلى أن دراسة جادة أكدت أنه في حالة احتضان المغرب لكأس العالم 2010 كان سيربح 14 سنة من التنمية الشاملة في ظرف ست سنوات. فرجة ممتعة لمباريات قطر 2022.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول م...ح:

    الشعب يريد الخبز والكرة والعيش الكريم .

  2. يقول العلمي:

    لا تحتاج الدولة في العالم العربي إلى تخصيص ميزانية كبيرة لكرة القدم. ما عليها إلا دعم القطاع الخاص بترسانة قانونية و بتسهيلات ضريبية لينهض بهذه الرياضة الجماهيرية و يجعلها قطاعا منتجا – لا مستهلكا للمال العام-، و مساعدا في توضيف الشباب.
    إني آسفُ لعدم استثمار مليارديرات الخليج في أندية عريقة ذات مستوى لا بأس به كالأهلي و الزمالك و الوداد و الرجاء مثلا لا حصرا ، فالحمد لله المواهب و الروح الرياضية متوفرة و لا ينقصنا إلا الشجاعة و حسن النية و التراحم القومي

إشترك في قائمتنا البريدية