نواجه اليوم، وبشكل واضح، عقلية «الرجل الأبيض» الذكي والفعال تاريخياً، والحامل الناقل للحضارة إلى بشرية بدائية؛ لتنويرها والدفع بها إلى التقدم. نعرف جميعاً اليوم نتائج هذه الأيديولوجيا في أمريكا الجنوبية وفي الاستعمارات الحديثة التي أبادت شعوباً بكاملها. لا يزال الغرب الاستعماري حتى اليوم يسير وفق المالك للحقيقة المطلقة، فلا حقيقة خارجه وخارج منطقه. في الخلفية غير المرئية، والمرئية أحياناً، تتجاور الحقائق، المعرفة والقوة العسكرية. ما يسمى حضارة خاضع أصلاً لهذه العقلية المغلقة. «الرجل الأبيض» كان وراء العبوديات المختلفة في أسوأ صورها ومراحلها التاريخية التي ابتذلت الإنسان وحولته إلى لا شيء، في أكبر معاناة عرفتها البشرية، لا يزال الإنسان في معناه المجرد إلى اليوم ضحية لها، في أكبر حرب عالمية دمرت الملايين وضعت حضارة بشرية بكاملها على حافة الخراب والنهاية، ونتجت عنها أكبر جريمة معادية ضد الإنسان، ليس للسامية فحسب ولكن للإنسانية، وليس الهولوكوست إلا وجهها المكشوف. مورست القوة على الأضعف، والأقل قبولاً، الشخصية اليهودية وقتها. وتم محو بشر عيبهم الأوحد أنهم كانوا يهوداً. النقد الذاتي يقتضي حتماً العودة إلى أخطاء الذات التي ارتكبها «الرجل الأبيض» بأيديولوجية التفوق التي لم يكن هتلر إلا التعبير عنها، ولكنها كان مبطنة في أعماق «الرجل الأبيض». وفق أي منطق تمت إبادة أكثر من مليون عراقي في حملة عسكرية غير مسبوقة، بينت الدراسات التالية إلى إيهام أسبابها: امتلاك السلاح النووي. حملة قاتلة موجهة ليس ضد النظام العراقي، ولكن ضد العنصر الحضاري العميق، بحيث تم تدمير العراق ليس في بنيته التحتية ولكن أيضاً في بنيته الثقافية، فنتج عن ذلك سرقة أهم القطع التاريخية النادرة في المتاحف ونهبها بشكل معلن، في أكبر جريمة على المباشر، في بشاعة بدائية غير مسبوقة وفي تشريد شعب في القرن العشرين وكأن شيئاً لم يكن. «الرجل الأبيض» الذي لا يزال يرى في الآخر أنه المتخلف دوماً ولا يرى «الحدبة التي على ظهره» كما تقول حكاية الجمل ذي السنمتين الذي ظل يتمرغ ويضحك من صديقه الجمل عندما سأله هذا الأخير: ما الذي يضحكك فيّ؟ قال: أضحكتني «الحدبة» التي تحملها على ظهرك. لحظتها، بدأ الجمل الثاني يتمرغ ويضحك بلا توقف. فسأله: لماذا تضحك يا أخي؟ قال أضحك لأنك تحمل على ظهرك «حدبتين». لا يمكن فهم موقف بعض الهياج الغربي من كأس العالم خارج هذه العقلية الظالمة والمعتدية بشكل سافر. الذي يمنح الدروس، عليه أولاً أن يكنس أمام بابه. هل من الضروري تسييس كرة القدم للتعبير عن رفض؟ عادة وفي مثل هذه الحالات، ينصب الحديث في أكبر تظاهرة عالمية عن الضمانات الأمنية والرياضية التي توفرها البلاد، والبنية التحتية التي هُيئت لمثل هذا التظاهرة الكونية، وهل احترمت آجال الإنجاز المتفق عليها. وتأتي الفيفا كمراقب لمدى انسجام الوعود في إنشاء البرامج والملاعب وأدوات الترفيه المصاحبة لذلك. فجأة، تتم مغادرة الرياضة ومستلزماتها ويبدأ الحديث عن حقوق الإنسان؟ في بلدان الخليج وحقوق العمال الذين كانوا ضحية لكل هذه المنشآت الرياضية؟ بحسب الكونفدرالية النقابية الدولية، هناك حوالي 1200 ضحية بناء صاحبت بناء المنشآت، من النيبال والهند؟ بغض النظر عن دقة الإحصائيات من عدمها، كم من شخص توفي في جنوب إفريقيا والبرازيل بمناسبة إنجاز المنشآت تحضيراً لكأس العالم. ليست قليلة مطلقاً، وتم طمس ذلك ولا أحد وضع الأمر على الواجهة. كم يموت يومياً في الحوادث المعزولة هنا وهناك، في أوروبا وأمريكا وآسيا؟ لا يبرر هذا الكلام الضحايا الذين يموتون في مثل هذه الحالات، روح الإنسان ثمينة كيفما كانت الظرفيات المحيطة. أستحضر في هذا السياق سيدنا المسيح وهو يدافع عن مريم المجدلية ويصرخ في وجه راجميها: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر» ليلتفتوا قليلاً نحو السنمة التي يحملونها على ظهورهم قبل لوم غيرهم. الذي لم تقله المؤسسات هو بالضبط ما صرحت به مجلة الأصداء في 2013 les Echos ، «هناك صعوبة للفوز بعقود الإنشاء أمام الشركات الآسيوية وتركيا». المناورة الكبيرة لضمان أكبر جزء من الكعكة، بالمنطق المادي البحت، وليست قضية حقوق الإنسان إلا الواجهة الخارجية لحالة صراع خفي؛ أي الخوف من بناء مدينة لوسيل الرياضية الضخمة خارج المتعامل الأوروبي، كما صرحت بذلك بيونس أنسايدر Busines Insider والخوف من أن تكون حصة الشركات الأوروبية صفراً في النهاية، لأن المناقصات تضع في الواجهة الشركات الأوروبية المكلفة مع الشركات الأقل تكلفة مع نفس الجودة كالشركات التركية والهندية والصينية، أي هناك البدائل اليوم للشركات الأوروبية الضخمة التي استولت على معظم الأسواق، في الإنجاز، في الأوقات المطلوبة، وبجودة عالية. أي أن الأوروبي لم يعد هو مركز العالم وسرته، وعلى «الرجل الأبيض» أن يضع نفسه في مواجهة مرايا عالم يتغير بسرعة. الغطرسة العسكرية ليست هي القوة الوحيدة التي تفرض سلطانها.
كنت أشاهد بالصدفة إحدى القنوات الفرنسية CNEWS، المعروفة بمعاداتها للعرب والمسلمين وخطها العنصري المعلن الذي ابتذل العنصرية كلياً، لأرى كيف يرون كأس العالم في ظل تحليلاتهم الغريبة، من أي زاوية سيتناولونها؟ لم أستغرب من عقلية «الرجل الأبيض» التي ظل محللو القناة يسيرون وفقها. لكن لم أتصور انهياراً للقيم حتى تلك الدرجة. فقد حولوا كأس البيرة إلى قضية دولية، ومددوا الأمر حتى وصلوا إلى ملامسة حقوق الإنسان من خلال كأس البيرة، مع أنه لا يوجد منع للشرب إلا في الملاعب ومحيطها. أما في الفنادق والأماكن المخصصة لذلك فلم يتم منعها مطلقاً. وغرقت حقوق الإنسان في كأس بيرة. في النهاية، لكل بلد الحق في شكل التنظيم الذي يراه مناسباً لتاريخه وثقافته وقيمه. تصنيع العداوة من الفراغ. العداوة والحقد والضغينة يتم بناؤها شيئاً فشيئاً حتى عندما يتعلق الأمر ببلد كقطر، الذي استجاب كروياً لكل المطالب الرياضية الأساسية. فقد بدأت الضغينة منذ اللحظات الأولى المصاحبة لفوز قطر بأحقية تنظيم كأس العالم. يومها، بدأت الحملة المستميتة ضد هذا البلد الصغير: الحرارة والصعوبات الطبيعية؟ صعوبات الحركة والاستيعاب؟ فكانت الإجابة بدراسة ذكية للمعطيات الطبيعية، وبإبداع في الملاعب غير مسبوق، ومع ذلك لم يصمتوا وظلت الرغبة في انتزاع كأس العالم رهان «الرجل الأبيض» أي العنصري. في ظل تدمير التوازنات الطبيعية، لم تعد درجة الحرارة رهناً على بلدان الخليج. لو افترضنا أن كأس العالم جرت في أي بلد أوروبي، فقد تخطت درجة الحرارة فيها الأربعين. وعلى الرغم من أنه تم إقرار كأس العالم في فصل الشتاء، حيث الجو رائق في قطر وبلدان الخليج، فقد أثيرت قضية رزنامات البطولات الأوروبية المختلفة. شيء من الموضوعية يقتضي الاهتمام بأساسات وقائع كأس العالم. لعل تصريح رئيس الفيافا جياني أنفونتينو كان أجمل جواب على تطرفات «الرجل الأبيض» إذ وضع الغرب التاريخي أمام تاريخه وتفاصيله التي كثيراً ما ينساها أو يتناساها.
من الصعب فصل ذلك كله عن العقلية المهيمنة التي تتحكم اليوم في الغرب والتي ترى في العربي إنساناً من درجة ثانوية وصورة تجسد الإرهاب. تجربة قطر أخرجت النقاش من هذه الدائرة وأدخلته في دائرة أكثر جدارة وقوة، إذ كيف لبلد صغير أن ينظم أكبر تظاهرة عالمية ويوفر لها كل سبل النجاح الأكيد؟ هذا هو الرهان العظيم، وقد بين الافتتاح كم أن هذا ممكن وكم أن التجربة تستحق كل المحاولة. هنيئاً لقطر بهذا المنجز العظيم الذي سيتسلمه الشعب القطري لاحقاً لإعطاء أهمية كبيرة للتجربة الإنسانية الكبيرة للرفع من الرياضة القطرية والعربية، وهنيئاً للعالم العربي الذي أثبت أنه قادر على الخروج من المواصفات السلبية التي ألصقت به ظلماً.
نعم هنيئًا لقطر وللعرب ولكل محبي الكرة، قطر اثبتت ان العربي الذي بنى القصور والجامعات والمكتبات والحدائق في الاندلس قبل مئات السنين قادر على بناء كل ما تحتاجه استضافة كأس الامم.
شكرًا أخي واسيني الأعرج. بلا شك يحق أن نهنئ قطر على هذه المناسبة العالمية الرياضية التي تقدم رسالة سلام للعالم أجمع. من ناحية أخرى أعتقد أنه علينا أن لانشعر بالإستفزاز ونتقبل النقد ومهما كان قاسيًا ونتعلم الدرس جيدًا من أجل أن نستجمع قوانا ونستطيع التغلب على ضعفنا، لنقدم الأفضل. بالطبع لاشيء جديد فيما يقوم به الغرب وهذا معروف جيدًا فلماذا نشعر بالإستفزاز، هم فقط غاضبون ويغتاظون ويشعرون بفقدانهم فوقية الرجل الأبيض! وهذا يعني مرحلة تاريخية جديدة على الأبواب! بعض النقد بما يخص العمال والمثليين أعتقد أنه صحيح! وعلينا أن نهتم بذلك. لكن بالطبع هذا واجهة وليس من باب المبدأ، سياسة بالمفهوم الغربي! في النهاية علينا أن نتقبل هذا النقد بروح رياضية ونفهم الدرس جيدًا ونستعد للخطوات القادمة.