إلى رشيدة
هُوَ لم يزلْ في بيتنا.. في ركنها المعتادِ..
حيثُ تطلُّ منه على الحديقةِ..
بَارداً (كعظامِها في الأرضِ) منطفئاً..
أحدّثُه.. فيرمشُ لي..
ويغمضُ عينَه حينا.. ويَفتحُها
أقولُ كأنّه يغفُو..
أقول لعلّه يصْحُو..
أقولُ كأنّهُ سيضيءُ قضباناً وعيداناً..
وأحياناً أقولُ كأنّه كرْسيُّ بيكاسّو..
ولا حبْلٌ يطوّقه..
ولَوْلاَ أنّها تَرَكَتْ على الكرسيِّ مصْحَفَها الصغيرَ..
لَكُنْتُ قَدْ أسْمَيْتُهُ كُرِسيَّ فان خوغ..
أجَلْ.. كرْسيّهُ.. هُوَ نفسهُ..
لكن بلا غليونه..
٭ ٭ ٭
هُوَ شَاغِرٌ في ركْنِهِ.. مُدّثّرٌ بالجلدِ ثوبِ النومِ..
(والأحياءُ نحنُ جلودنا أكفانُنا)..
أنَا لمْ أفكّرْ في الجلوسِ عليه قطّ.. وكيف لي؟ وبه؟
وما بادرتُ.. أوْ حاولتُ..
بل أوصيتُ أولادي وأحفادي: دَعُوهُ إذنْ لَهَا
كُرْسيَّ «ماغريت» الذي وَسِعَ السماءَ وظلّها
فَيدُورَ بي.. كالأرضِ..
لِي ما فوْقهَا.. ما تحْتهَا..
لكأنّني في الضفتيْنِ معاً.. هنَا.. وهناكَ..
إذْ لي المُعتِمُ الليليُّ منها.. في النهارِ..
ولِي النهاريُّ.. المُجلّى
حين تخفَى الشمسُ.. أو تُطوَى..
أجيءُ إليه.. ألمسهُ.. أحدّثهُ..
كأنّي كنتُ بين يديه أنشجُ.. ذاكَ كرسيّ الحياةِ لها..
وكرسيُّ الصلاةِ.. قماشهُ الزيتيُّ.. مرآتي..
أرى عينيَّ في وجهِي..
أراني.. إذ أراكِ الآنَ..
٭ ٭ ٭
أعرفُ ثمَّ أشياءٌ.. تُنادينَا..
بقارعةِ الحياةِ… لها صدىً فينَا…
وليست بالقريب.. لكي أمدّ يدي.. فألمسها وآتِيهَا..
وليستْ بالبعيدِ.. لكيْ أواسينِي.. وأنساهَا..
وأعرفُ أنّ لي طرقاً..
صحارَى أو مروجا.. مثلَ كلّ الناسِ..
أخرى لم يَسِرْ فيها.. المشاةُ… بحبلها المشدودِ..
أعرفُ.. كلّ حين ثمّ موتٌ..
والحياةُ؟ هَلِ الحياةُ لنا سِوَى هذَا الخُلودِ مؤقّتًا نَحْيَاهُ..
لي أبديّتي.. إذ ينهضُ الكرسيُّ.
يأتِي ماشيًا.. هذا الجليسُ.. إليَّ.. أملسَ ليّنًا..
يَدْنُو.. ويَحْنُو.. وهو يعتذرُ:
أنا لستُ من قصبٍ.. ولا خشبٍ..
ولا خُوصٍ ولا عاجٍ.. ولا مِنْ طُحْلب تَرِبٍ..
ولا مِنْ خَيْزُرانٍ..
إنّما أنا من ترابٍ.. مثلكمْ
وغدًا.. أنا حَجَرُ
٭ ٭ ٭
القيروانُ الآنَ عزَّ الصيفِ.. زُرْقةُ ريحِها..
شهلاءُ مثل عِتاقِها وبُزاتِها..
شمسٌ تضيءُ الضفّة َالأخرى.. وتطفئُنا
وهذا الليلُ ينفخُ بين قضْبان.. وعيدانٍ..
وأنتِ إلى كتابكِ تجلسينَ… تُرتّلينَ نعيمَهُ وجحيمَهُ
وأنا إلى كتبِي وأشيائِي..
إلى كأسِي وأغنيتِي.. الحديقةُ خَلْفَ نافذتِي
كما خلّفتِها.. وغرستِها.. زرقاء كالفيروزِ.. أوْ كَظلالهِ
كانتْ ترتّبُ نومَها..
***
مِنْ أين يأتي الضوءُ؟
حيثُ البيتُ يُعْتِمُ.. والقصيدةُ تُعْتِمُ.. الكرسيُّ كان يضيءُ..
كيف أضاءَ؟
أنتِ إذنْ؟
أهذا الهَجْسُ؟ وَجْسُ خطاكِ عند البابِ؟
هذا النورُ؟ فَيْئكِ أنتِ؟
هذا الضوءُ؟ ظلّك أنتِ؟
لكنْ أينَ؟
والكرْسيُّ هذا الخيزرانيّ المثقّبُ.. مثل قلْبي فِي اهْتزامِ الرعْدِ..
يَجلسُ شاغِراً.. مُسْتَحْجِراً..
في رُكنكِ المُعْتادِ..
يَنْتظرُ..
كاتب وشاعر تونسي
قصيدتك ذكّرتني؛ وما كنت ناسيًا؛ بأخي الشهيد النقيب…بكته عينايّ حتى أصابها الوشل؛ فالحزن لا يُعيد حبيبًا قد رحل…
حقًا كما قال جبران خليل جبران: { حزني كحزنكم لكن لي أملًا…….فيكم يلطّف حزن النفس والألما }.
أهلا د.جمال. رحم الله أخاك الشهيد. والموتى أنما يموتون يوم تنسدل ستائر النسبان على ذاكرة الأحياء
نصّ جميل منصف. دام عطاؤك والرحمة لها
جمال القصيدة في جعل الغياب حضورا عبر الكرسيّ الذي غدا علامة على حضور الغائبة في المكان حضورا أضاء المحيط واضطر الشاعر إلى الانتباه إلى الأشياء من حوله وجعله يتكلم من خلالها وإذا الكرسيّ المعادل الموضوعيّ للغائبة وللذات في الشاعرة في الآن نفسه يجمع ما تفرّق ويسد فجوة في الوجود