اختلفت روسيا مع أمريكا فكسبت الصين، فقد حاولت واشنطن كسب تفهم صيني لموقفها وحلفها الأطلنطي في أزمة أوكرانيا، بينما سبق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين، وتحت غطاء حضور افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية فائقة الإبهار التكنولوجي.
وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ في انتظار صديقه، وقد التقاه لسبع وثلاثين مرة من قبل، وفي هذه المرة المضافة، وقع شي مع بوتين على إعلان تاريخي، عكس الرؤية الصينية لبناء النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، وحمل عنوان «الإعلان المشترك بخصوص دخول العلاقات الدولية عهدا جديدا والتنمية المستدامة» ولفت إلى تبلور «نزعة جديدة تقضي بإعادة توزيع توازن القوى في العالم» وإلى دخول البشرية «عهدا جديدا للتنمية السريعة، والتغيرات واسعة النطاق» وتبلور ظواهر «مثل تعددية الأقطاب والعولمة الاقتصادية وبناء المجتمع المعلوماتي، والتنوع الثقافي وتغير منظومة الحوكمة العالمية والنظام العالمي». ولم ينس الإعلان الصيني ـ الروسي توجيه نيرانه إلى ما سماه «بعض القوى التي تشكل أقلية على الصعيد الدولي، وتواصل الدفاع عن مناهج أحادية الجانب، وتلجأ إلى سياسة القوة، وتتدخل في شؤون دول أخرى» والإشارة ظاهرة طبعا إلى أمريكا، التي ذكرت باسمها ست مرات، واتهمها الإعلان مع حلفائها بأنهم يؤججون «خلافات ومواجهات، تحول دون تطور وتنمية البشرية، ما يستدعي رفض المجتمع الدولي».
وفي ترجمة مباشرة لإعلان «شي ـ بوتين» أبلغت الصين الاتحاد الأوروبي معارضتها لتوسع حلف شمال الأطلنطي «الناتو» على حدود روسيا، وقال البيان الصيني إن «توسع الناتو لن يساعد في ضمان الأمن والاستقرار في العالم» ورغم إعلان ينس ستولتنبرغ الأمين العام لحلف «الناتو» اعتراضه على موقف بكين، وإعادة التشديد اللفظي على أن «أبواب حلف الناتو تبقى مفتوحة» في تلميح إلى حق أوكرانيا في السعى للانضمام إلى الحلف، إلا أن التحركات الأمريكية والغربية عموما، صارت تميل لإغلاق ملف انضمام أوكرانيا، مع استمرار تحريك القوات الأمريكية إلى دول وسط وشرق أوروبا، لكن مع تخفيض التوقعات المفتعلة، بقرب الغزو الروسي عقب دورة الألعاب الأوليمبية، وما يشبه الانسحاب التدريجي المنتظم من المواجهة مع موسكو، وتواتر زيارات الزعماء الغربيين للقاء بوتين في موسكو، وإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رغبته في التوصل لتفاهم مع بوتين، واندفاع ألمانيا في الطريق ذاته، بعد رفضها إرسال أسلحة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكى، والاكتفاء بإرسال خوذات رأس، واعتراضها الظاهر على فكرة ضم «أوكرانيا» لحلف الناتو، وهو ما بدا الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه أقرب إليه أخيرا، بحديثه عن عدم توافر شروط ضم أوكرانيا للحلف، وكأنه يغطي انسحابه من مواجهة مع روسيا، خسرها قبل أن تطلق موسكو رصاصة واحدة، وبالذات بعد إعلان الصين عن علاقة شراكة شاملة «بلا حدود» مع روسيا. وفي تفاصيل لعبة الشطرنج العالمية الجديدة، لعب بوتين على مسرح «أوكرانيا» بالورقة الصينية الحاسمة، واستطاع ببركة تحالفه الموثق مع بكين، كسب أولى معارك الحرب الباردة الجديدة، فواشنطن لا ترغب ولا تستطيع الدفع بقوات إلى أوكرانيا، بدعوى حمايتها، تماما كما لم تستطع عمل شيء مؤثر، حين قرر بوتين عام 2008 غزو جورجيا، واقتطاع أقاليم منها بهدف منعها من الانضمام لحلف الأطلنطي، وكذا حين قرر بوتين غزو أوكرانيا نفسها عام 2014، واقتطع ميناء «سيفاستوبول» وشبه جزيرة «القرم» وضمهما نهائيا إلى أراضي روسيا، ولم يكن بوسع واشنطن وقتها كما اليوم، سوى أن تلجأ إلى سلاح العقوبات الاقتصادية الصارمة ضد موسكو، التي يعاني اقتصادها من هشاشة ظاهرة، ويضعفه فرط اعتماده الريعي على تصدير البترول والغاز الطبيعي، إضافة لتواضع حجم الناتج الإجمالي الروسي نسبيا
في تفاصيل لعبة الشطرنج العالمية الجديدة، لعب بوتين على مسرح «أوكرانيا» بالورقة الصينية، واستطاع بتحالفه معها كسب أولى معارك الحرب الباردة الجديدة
(1.7 تريليون دولار) وهو ما يشجع واشنطن على التهديد بخنق الاقتصاد الروسي، وعلى نحو ما أعلن بايدن مرارا من خطط عقوبات في حال تكرار الغزو الروسي لأوكرانيا، من نوع وقف استيراد أوروبا للبترول والغاز الروسي، ووقف تشغيل خط الغاز الروسي الألماني الجديد «نورد ستريم ـ 2» والبحث لأوروبا عن بدائل للغاز الروسي، الذي تعتمد عليه أوروبا عموما بنسبة 40% من احتياجاتها، ويعول عليه الاقتصاد الألماني بنسبة 55%، ورغم تذمر ألماني لا يخفى من مطلب واشنطن إغلاق خط الغاز العملاق، وتردد المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز في الاستجابة الكاملة لخطط العقوبات الأمريكية الأخرى، من نوع حرمان البنوك الروسية من مزايا نظام «سويفت» البنكي العالمي، وهو ما قد يؤدي لشل حركة التبادل التجاري مع روسيا، لكن التحول الجوهري في المواقف حدث مع زيارة بوتين الأخيرة إلى بكين، فالصين هي أكبر مصدر في العالم، وثاني أكبر مستورد عالميا، وفي قمة مستهلكي الطاقة في الدنيا كلها، وبوسعها تعويض روسيا عن التداعيات السلبية للعقوبات الأمريكية والغربية، وهي أكبر شريك تجاري لموسكو، وحجم التجارة السنوي بينهما وصل إلى 146 مليار دولار، فيما يصل التبادل التجاري الصيني مع أوروبا إلى 709 مليارات دولار سنويا، ومع أمريكا ذاتها إلى 755 مليار دولار، ونصيب الصين من التجارة العالمية يزيد اليوم على 35%، وفوائضها من الاحتياطي النقدي الأجنبي تقارب الثلاثة تريليونات ونصف التريليون دولار، وبغير ديون كتلك التي تعانيها أمريكا العليلة، وتناهز اليوم نحو الثلاثين تريليون دولار، فالصين هي القوة كاملة الأوصاف في عالمنا، وتندفع بسرعة إلى القمة الدولية، وإعلانها لموقف في أزمة أوكرانيا، حوّل اتجاه الريح تماما، ودفع فرنسا مع ألمانيا إلى ما يشبه الانشقاق عن الموقف الأمريكي، ورفض سلوك بريطانيا الأنكلوساكسوني الذيلي لوشنطن، ومسارعة لندن إلى مشاركة أمريكا في إرسال أسلحة متطورة إلى كييف، مع إدراك مسبق لعجز أوكرانيا، عن الصمود لبضع ساعات في مواجهة الغزو الروسي إن جرى، ما دفع الرئيس الأوكراني نفسه إلى طلب التهدئة مع موسكو، ومد الصلات مع فرنسا وألمانيا مجددا، وإعلان الرغبة في إحياء «اتفاق مينسك» الذي وضعته روسيا مع فرنسا وألمانيا وأوكرانيا بعد ضم «القرم» وصاغ خطة وقف إطلاق النار بين كييف»والانفصاليين الروس شرق أوكرانيا، الذين أقاموا جمهوريتي «لوجانسك» و»دونيتسك» في منطقة «دونباس» وهما «كعب أخيل» الروسي داخل أوكرانيا، الذي لن يتخلى بوتين عن استثماره في المدى القريب والمتوسط، بعد أن بدا أنه اقترب من هدف أكبر، هو تخفيف حجم ونوعية أسلحة حلف «الناتو» في دول شرق أوروبا عموما، وليس فقط غلق ملف انضمام جورجيا وأوكرانيا للناتو.
وفي مجرى الكسب الصيني من الدراما الأوكرانية، بدت بكين كأنها الطرف الأقوى والأقدر والأعقل معا، وسحبت من منافستها واشنطن دعوى قيادتها للعالم، وحتى للغرب الأوروبي، فالتأثير الصيني على دول الاتحاد الأوروبي زاد على التأثير الأمريكي نفسه، والتجارة الصينية مع أوروبا زادت على نظيرتها الأمريكية، وبفوائض لصالح بكين وعجز تجاري في حالة واشنطن، وهو ما يعود بنفع استراتيجي مباشر لصالح الأولويات الصينية، خاصة القومية منها، وبالذات في قضية تايوان، التي تسعى بكين لضمها نهائيا، على طريقة ضمها هونغ كونغ وماكاو من قبل، وتكاد واشنطن تكون الطرف الوحيد الذي يعارض الحق الصيني، رغم سابقة إقرار واشنطن لحق الصين في تايوان، وتسليمها بسياسة «صين واحدة» أوائل سبعينيات القرن العشرين، وقد أعاد بوتين تأكيد تأييده للحق الصيني، ومع إعلان علاقة «بلا حدود» بين بكين وموسكو، بدا أن خطة ضرب الصين بروسيا أكملت سيرة فشلها، وأن محاولات واشنطن استفزاز الصين بقضايا من نوع «الإيغور» و»التبت» وهونغ كونغ يضعف أثرها، مع توثق عرى تحالف «أورواسي» هائل، يملك القوة العسكرية والاقتصادية الأكثر حسما في توازنات العالم الجديد، ويحمي ظهر الصين المصممة على ضم تايوان في موعد تحدده بغير تعجل، وفي حرب قد لا تستغرق سوى بضع دقائق، لا تكسب واشنطن في الطريق إليها، سوى إبرام صفقات سلاح مع حكومة تايوان، كان أحدثها صفقة بمئة مليون دولار، كان رد الصين عليها، فرض سيادة جوية دائمة على أراضي تايوان، وباستخدام أسراب من قاذفاتها النووية الاستراتيجية، في تحذير حربي متصاعد لواشنطن، التي بدت محاولاتها للتحرش بالصين عظيمة الإخفاق، ومثيرة لسخرية بكين، التي فضلت عدم التعليق على اصطدام غواصة نووية أمريكية بعائق صلب في بحر الصين الجنوبي، ثم سقوط الطائرة «إف 35 « فخر الصناعة الأمريكية أخيرا بالقرب من المكان نفسه، وبتكنولوجيا مضادة غير مرئية، كانت الرسالة «المشفرة» فيها، أن اللعب مع الصين فات أوانه وضاق مكانه.
كاتب مصري
شكرًا أخي عبد الحليم قنديل. قد تكون الصين هي الرابح من أزمة أوكرانيا، لكن السؤال هل أوكرانيا هي الخاسرة! هناك نقطة أخرى في الحقيقة لم أفهم منك كيف أن أمريكا حاولت استفزاز الصين بقضية الأيغور! هل الصين تحتاج في هذه الحالة لإيتفزاز فكما نعلم الثورة الثقافية حصلت كتجربة مريرة على الشعب الصيني كله و الأيغور وتابوان والتيبت وغيرهم هم ضحايا هذه السياسة الحمقاء لنظام شمولي لن ينقذه الإقتصاد القوي من سياسته الحمقاء طالما أنه لم ينقذ أمريكا القوية نفسها بعد أن اتبعت السياسات الحمقاء.