في تمثّل مجموعةٍ شعريةٍ، عيشاً يتجاوز إرادة التفكير في التمثّل، مثل مجموعة الشاعرة السورية وداد نبي «كسورٌ غير مرئية»؛ ربّما تأخذُ الدهشةُ القارئَ إلى السماح بتمرير جرعة الجرأة المبثوثة من قصائدها في جدرانه المسبقةِ الصنع، وربّما تأخذه بساطة تركيب الجمل المتداخلة بالحياة اليومية في العمل وبين الناس وفي المطبخ والحديقة وغرف النوم إلى التأمل في تركيبة نفسه، وربما يأخذه الخيال بتأثيرٍ من قصائدها «الإيروتيكية» القليلة التي سمّتها هكذا في المجموعة، إلى ما يجري بين اثنين بعد الحب.
يَعُدّان في هدأة ملذّة التأمّل، جروحَ جسديهما لبعض ويرويان أسباب وتواريخ الجروح، ولكنْ بإضافة دهشةِ ما يتجاوز جروحات الجسد التي أتت من انفجار ما، أو طلقةٍ، أو أسلاكِ هروبٍ، إلى جروحات الروح التي تقوده إلى دواخله، وبها تتجاوزا نبيُّ جروحات ما تترك قسوةُ مجتمعات التخلّف في أرواح وأجساد أبنائها، وبالأخصّ الأطفال، إلى الجروحات الأعظم التي يولّدها الاستبداد وحروبه على الناس، وتهجيره لهم إن فكروا بضرورة الحرية.
نقرأ في قصيدة «ذكرى القنابل» استحالة زوال الذكريات الأليمة:
«(1) توقّفت الحربُ منذ زمنٍ
ورغم ذلك وميضُ النجومِ لا يزال يأتينا من الماضي.
(2) ليس لخطواتكَ أثرٌ في البلاد الجديدةِ
آثار خطواتِكَ
تخلّتْ عنك على الخطِّ الفاصلِ بين بلدكَ والنجاة.
(3) بعيداً/ عظامُ الأحبّةِ تنحلُّ تحت التراب
قبل سريان العفونة في جسد الذكرى.
(4) صيف 2015
جالسةً على ضفاف نهر سافا في بلغرادَ
ذكرى القنابل تطفو كرغوة صابونٍ حلبيٍّ في رأسي
أعمدة الدّخان تتصاعدُ من قاع النّهرِ لقلبي
القنابل لا تموتُ».
وتُعْلي الشاعرة السورية الكرديّة كشفَ الكسور والجروحات التي يحملها عنوان المجموعة باقتدار، في نبض القصائد بالألم والقسوة والفقد والخذلان والأسى والأمل الذي يتخفّى بثياب اليأس، إلى ما يفجِّر قنبلةً صغيرةً في ذهنية القارئ على اختلاف وجوده ومواقفه بالنسبة للصراعات القومية.
وهي تَطْرقُ بجرأةٍ بابَ تأثير كسور اللغة بمعنَيَيْها اللغوي والنفسي المتداخل في نفس من يقع تحت مطحنته، في قصيدة «لغةٌ مكسورةٌ»، الأكثر حساسية في المجموعة، سواء من جهة فنيتها الإشكالية المركّبة على الصورة التي تَستخدمُ بها قصيدةُ نثرِ ما بعد الحداثة بأشكالها المعاصرة العناصرَ غير الشعرية وتحويلها شعراً، أو من جهة معانيها في ظلّ تعقّد الصراع الجاري في سوريا، والذي يحمل في طيّات محوره المبلور في الصراع بين قوى التحرر الممَثَّلة بالمنتفضين ونظام الاستبداد، صراعاتٍ اثنيةً طائفيةً وقوميّةً زرعها وأجّجها النظام داخل الجسد السوري لتنفجر فيه عند ثورته عليه، من أجل بقائه.
في هذه القصيدة الأطول في المجموعة، تعْرض نبي وتحلّل شعراً، قسوةَ تعلُّم اللغة قسراً، وألمَ الطفل الكرديّ الموزّع بين لغتين مكسورتين: العربيةُ التي عليه أن يتعلّمها بالضرب من المعلّمين والسخريةِ على كسوره من التلاميذ، والشعورِ بالدونية والإذلال نتيجةَ القسر؛ والكرديّةُ التي مُنِع من تَعلُّمِها، بقوانين الديكتاتورية البعثية الشوفينية، التي تخلقُ شروخ الكراهية بين الشعب الواحد المتعدّد الأديان والطوائف والقوميات، حيث:
«ما نفع الحديث بلغةٍ سليمةٍ/ في بلدٍ منَعَنَا ونحن أطفالٌ التلعثمَ بلغتنا الكردية الأمّ./ نرضعُ اللغة مع حليب الأمّهات،/ لكنّ الديكتاتوريات لم تعِ هذا./ اللغةُ لا تحتاج لعصاً خشبيّةٍ/ تكسر عظْمَتَيْ يديكَ الصغيرتين لتنطقها سليمةً/ لكنّ المعلِّمين هناكَ/ لم يفهموا هذا أبداً./ ثم أخبِرْني/ كيف كُنّا سنقعُ في حبِّ لغةٍ/ تَبَوَّلَ المئات منّا على أنفسهم بيومهم المدرسي الأولِ/ لأننا لم نكن نعرفُ بعدُ كيف ننطق بالعربيّة/ جملةً بسيطةً وواضحةٍ من قبيلِ:/ أريد الذهابَ إلى للحمّام».
ولا تنسى نبيّ مداخلةَ التفهّم والتسامح والموضوعية بدوافع الكره في هذه القصيدة، مع الإصرار على التجاوز، حيث: «ستكون لغتي الألمانيةُ مكسورةً مثلي/ ربّما تبقى لغةَ شخصٍ أجنبيٍّ/ لكنني سوف أقرأ قصائد ريلكه باللغة الألمانية/ كما لو كانت منزلي/ كما أصبحت العربية منزلي».
قصيدة اللقطة بلقطات متشابكة
في كسورها غير المرئية، والمرئيةِ مضخَّمةً بعصا سحر الشعر؛ تلجأ نبي إلى وضع قصائدها في بنية بسيطة تحافظ فيها على توالي 37 قصيدةَ نثرٍ بأسلوب السطر، تتموضع في نسقين. الأول قصيدةٌ قصيرة أو متوسطةٌ أو طويلة تحت عنوان قصير، والثاني قصيدةٌ مكونة من مقاطع قصيرة ومتوسطة الطول بأرقام تتراوح بين 3 و13 مقطعاً، وتترابط المقاطع في معظم هذا النسق وإن بغير مباشرةٍ لتشكل القصيدة، بينا تأخذ المقاطع في بعض القصائد مثل «قصائد إيروتيكية» وضع قصائد مستقلةً لا يربطها سوى الطابع العام.
وفي كل الأحوال تأخذ القصائد القصيرة طابع اللقطة النابضة والنهاية المفاجئة، وينسحب هذا الطابع على جميع القصائد تقريباً بالتخلّل فيها، حيث يحضر كأمثلةٍ، النسيانُ: «كلَّ صباحٍ/ أفتح صندوق البريدِ/ رسائلُ من كلِّ مكانٍ على هذه الأرضِ/ إلا من قارّةِ النسيان». ويحضر وباء كورونا: «الخوف يُقشِّرُنا من الداخلِ/ والفيروسُ يحفرُ لنا توابيتاً في العناقِ». ويحضر «الحب كربة بيت» في:
«قلت لكَ مرّةً
حاولتُ الانتحار في العشرينِ
لذا لا زلتَ تُخفي شفرة الحلاقةِ
بعيداً عن نظري في الحمّام
للأمر علاقةٌ بالحبّ
أكثر من الخوفِ».
كذلك يحضر الحب بجرأة عيشه الإيروتيكي في: «شهواتنا الليلية/ تتدحرجُ كنصف قمرٍ على السرير/ فيما فمُك كسمكةٍ لزجةٍ/ ينزلقُ بخفّةٍ في مائي/ على بعد سنتمتراتٍ قليلةٍ/ ردفاي يتوثبان لقنص مسكِ الغزال منكَ».
وفي قصائدِ تَخَلُّل النبض هذا في اللقطات، تلجأ نبي إلى أسلوب اللامنطق وقلب المفهوم، حيث ينمو الشعر ويترعرع عادةً، مؤكدةً ذلك فيما تضع من معانٍ جديدةٍ للمتعارف عليه، كما في قصيدة «قاموسٌ جديد»، التي تقلب فيها موضع التعريف والمعرّف: «متحفٌ للدموعِ/ المنفى/ أشجارٌ دائمة الخضرة،/ الذكرياتُ/ ملوحةٌ في معدة البحر،/ الحبُّ/ عظامُ أحبة محفوظةٌ/ في مرطبان الخلِّ،/ النسيانُ».
ألم الكسور وتجارب الندوب:
في كسورها غير المرئية، المتحوّلةِ إلى ندوبٍ، بفعل الزمن ومقاومة حتّ الذكريات للجسد والروح، ومحاولات التشافي بالتأمّل والعلاقات بالآخرين والأصدقاء؛ تلجأ نبي إلى الضغط على الذاكرة في طريقة العلاج بالداء نفسه، وبمواجهة الذات لمآسيها، ولما حدث لها في الطفولة، من قسوة الأب وخنوع الأم كمثالٍ تضعه في قصيدة «قصائد إلى أمي»، وما حدث لهذه الذات كذلك في مآسي الحرب، حيث:
«المنفى أرادني
شخصاً سعيداً بالنجاةِ
لكنَّ الغضبَ ما يسكُنُ داخليْ
فساتيني مزَّقتْها الأسلاك الحدوديةُ،
جسدي ترابٌ داسهُ المهرِّبون
رأسي حقل ألغامٍ.
الحنينُ رمادٌ ثقيلٌ
وما من طريقٍ إلى النسيان».
مع تمرير نبي ضمن هذه المواجهة مع الذات وكسور اللغة والجروحات لتأثير الإصرار على الحياة، وتمريرها لفعل ومعجزة الندوب في النبض وإعادة الحياة.
وفي رحلة التشافي هذه تمرُّ الحياة اليومية في المنفى، وتمرُّ ذكريات البيت والبلد البعيدين، ويمرُّ مفهوم الشعر منذ أول قصيدة تحت عنوان «تهويدة». يمرُّ الوباء القاتل بفيروس كوفيد الذي يعشّش في البيت كجارٍ أليفٍ، يبعث ذكريات وطقوس التعامل مع الاموات في سوريا، مثلما يبعث قوة مقاومة الموت في الأحلام. وتمرُّ قصائد الجرأة والحبّ العاري من الخوف، حيث: «من فمكَ الحلو/ أطلب قبلةً/ قبلةً برائحة الحليب المحترقِ/ بطعم القمر الفضّي المكتملِ/ تموت قبل بلوغ الفجر/ قبلةً تفتح بوابات الجحيم». وتمرُّ الفتاة البرِّية التي خرجت من مصهر القسوة شاعرةً. وتمرّ «النساء غير المرغوبات»، اللواتي لا يهتمن بالمظهر، ويعملن في وظائفهنَّ وفي الأنشطة الاجتماعية. وتمرّ الحسرةُ على ما لن يعود، وتمرُّ السكاكين، في تفاصيل الحياة اليومية في المنفى، ضدّ الحياد، ويمرّ حنان الحبيب الذي يصنع بلسم التشافي من الكسور، في الحب العابر للإثنيات، وتمرّ الأحلام التي بدَّدتها الحرب، ببيت فيه عشر غرف للأصدقاء.
وتمرُّ مدينة حلب في ثلاثة قصائد تأتي فيها الحرب التي: «جردتني من المكانِ/ كما فعلت بنساء بحسيتا/ تركتني أهيم من متجرٍ إلى آخر/ أتتبع رائحة صابون الغار/ في البلاد البعيدة.»، مع التساؤل المؤسي: «ما الذي يجعل من نسيج حلب وعداً»، حيث «أريدك كبيت في حلب»، ولكنْ: «ما عادت هناك حلبُ، ليكون لك بيتٌ فيها».
كما تمرُّ اللغة التي تُخبِّئ تحت جلدها تاريخ الدم والعداوات، ولكن أيضاً، اللغة حيث «تخضرّ الأبجديات، إذا نام العاشقان لليلةٍ إضافيةٍ في سرير واحدٍ متعانقين». وحيث: «وددتُ لو آكل لغتك»، وحيث: «كل يومٍ جديدٍ يشرق على لغتينا/ وهما رفيقتان/ هو نهار مسروق من خيانات اللغة».
وإضافة إلى كل ما يمرّ، مجتزأً كأمثلة في مجموعةٍ مكرسة لسبر الجروحات والتشافي، في شموليةٍ ملفتة، يعيش قارئ كسور وداد نبي، متعةَ الدهشة والبساطة وعذوبة الشعر.
وداد نبي: «كسور غير مرئية»
رواشن للنشر، دبي 2022
76 صفحة.