لندن – “القدس العربي” : قضى بايرن ميونيخ على آمال غريمه بوروسيا دورتموند في المنافسة على لقب البوندسليغا، بإسقاطه يوم الثلاثاء الماضي في عقر داره “سيغنال أيدونا بارك” بهدف نظيف، في مباراة الـ”كلاسيكر”، التي بدت وكأنها جنازة صامتة، لاختلاف المشهد هذه المرة، بسماع أصوات اللاعبين داخل الملعب وصرخات المدربين من خارج الخطوط، إما لإعطاء التعليمات أو للاعتراض على قرارات الحكم، على عكس الوضع في زمن ما قبل كورونا، حيث كان محيط الرعب، أو بالأحرى الحائط الأصفر الجنوبي، يملأ الدنيا ضجيجا وصخبا، بالمعنى الحرفي لمصطلح “الأجواء المثالية”، التي يحلم بها لاعب كرة القدم وملايين المشاهدين في كل بقاع الأرض.
قبل الـ”كلاسيكر”
كما نعرف جميعا، كان للألمان السبق في إعادة فتح الملاعب، بأفضل وأنسب طريقة ممكنة للتعايش مع كوفيد-19، حتى يستأنف ما تبقى من الموسم بأقل الخسائر والأضرار، خصوصا على مستوى صحة اللاعبين، بإتباع بروتوكول وقائي صارم، لمنع انتقال العدوى بينهم، وأيضا لدعم الأندية، التي حُرمت من مداخليها الرئيسية والثانوية على مدار شهرين، وهو ما أثار غيرة الجيران والمنافسين، والإشارة إلى إنكلترا وإسبانيا وإيطاليا، لاستنساخ النموذج الألماني في غضون أسابيع تعد على أصابع اليد الواحدة، لإنقاذ الأندية الغارقة في الخسائر الفادحة، لكن الأمر اللافت في وطن ملوك الماكينات، أنه بالرغم من طول فترة تجميد النشاط، والظروف الصعبة المحيطة بالمباريات، كما بدأنا نعتاد على المشاهدة بمدرجات خاوية على عروشها، و”كمامات” على الأوجه القليلة المتواجدة خارج الخطوط “ومعقمات” في كل متر وكأنك في غرفة عمليات أو إنعاش داخل أحد المستشفيات، وغيرها من الأمور غير المألوفة بالنسبة للمشاهدين، فقد بدا واضحا في أول جولتين وكأن الكبيرين بايرن ميونيخ وبوروسيا دورتموند لم يتأثرا بالتوقف، وتجلى ذلك في تخطي رجال المدرب هانز فليك مضيفهم يونيون برلين بثنائية بأقل مجهود، ثم سحق آينتراخت فرانكفورت بخماسية مقابل اثنين في الجولة الـ27 للبوندسليغا، وفي نفس الوقت، كان الجلاد الاسكندينافي الصغير إيرلينغ براوت هالاند، يضرب بلا هوادة، بقيادة أسود الفيستيفاليا لافتراس شالكه برباعية نكراء في دربي “الرور”، وتبعها بفوز اقتصادي على فولفسبورغ على ملعب العلامة التجارية الشهيرة “فولكسفاغن آرينا” بهدفين دون رد، لتوفير المجهود للكلاسيكر الحاسم على اللقب بنسبة تزيد على 90 %، كون الفارق بينهما كان أربع نقاط لمصلحة حامل اللقب في المواسم السبعة الماضية، وهو ما أعطى أهمية مضاعفة للمباراة ونتيجتها، وجعلها تتصدر عناوين الصحف والمواقع الكروية، باعتبارها المعركة المصيرية على اللقب، وهي كانت كذلك، كما وثقت العدسات ردود أفعال مانويل نوير ورفاقه، بمجرد أن أطلق الحكم توبياس ستيلر صافرة النهاية، معلنا فوز البافاري باللوحة الإبداعية التي رسمها جوشوا كيميتش، على طريقة فرانشيسكو توتي، بتسديدة على طريقة “الملعقة”، جلب بها نقاط الاحتفاظ بالبوندسليغا للعام الثامن على التوالي.
تفاصيل الموقعة
صحيح تاريخ المواجهات الأخيرة بينهما كان يصب في مصلحة كبير القوم، لكن التوقعات هذه المرة كانت متساوية بنسبة 50% لـ 50%، بعد استفاقة رجال المدرب لوسيان فافر مع وصول الثنائي إيمري تشان وبراوت هالاند في الشتاء، والتي أسفرت عن ستة انتصارات متتالية، وهي نفس عدد انتصارات البايرن قبل دخول “سيغنال أيدونا بارك”، حتى أن بداية المباراة أعطت مؤشرات إلى ذلك، بحصول الصغير النرويجي على فرصة ذهبية عند الثانية الـ30، بهفوة مشتركة بين مانويل نوير والظهير الأيسر ألفونسو ديفيز، لكن من سوء طالع هالاند وفريقه، تواجد جيروم بواتينغ في الوقت المثالي والمكان الصحيح على خط المرمى، ليبقي النتيجة على البياض، بعدها لا تفهم عزيزي القارئ ماذا حدث في المباراة، بدخول تدريجي لأصدقاء روبرت ليفاندوسكي في أجواء المباراة، باستحواذ على الوسط، لدرجة الهيمنة على منطقة المناورات، بوجود ثنائي محور الارتكاز ليون غوريتسكا وصاحب الهدف جوشوا كيميتش، بتحركات بدون كرة إلى الأمام، لإجبار رافائيل غوريرو والاكتشاف السار محمود داوود على أخذ وضعية الدفاع أمام ثلاثي الدفاع، لوكاش بيتيشك وماتس هوملز ومانويل أكانجي، لإفساح المجال لتوماس مولر أن يكون رأس مثلث على الطرفين، تارة مع الثنائي كينغسلي كومان وألفونسو ديفيز في اليسار، وتارة أخرى مع سيرجي غنابري وبنجامين بافارد في الرواق الأيمن، بخلاف دور الهداف البولندي، بتحركاته النموذجية بدون كرة، سواء خارج مربع العمليات أو داخله، يكفي فقط أن خطوته داخل منطقة الجزاء، كانت تجبر بيتشيك وهوملز على التحرك معه، أو على الأقل التواجد على مسافة قريبة جدا منه، لذلك كان يجد مولر وكومان والبقية وقتا كافيا للتصرف بالكرة على حدود المنطقة، وربما أقوياء الملاحظة، انتبهوا لما حدث مع ليفاندوسكي قبل 4 أو 5 ثوان من الهدف، بقيام بيتشيك بالإمساك به، بالأحضان، لمنعه من التحرك، في نفس الوقت الذي انتبه فيه هوملز أن كيميتش يُحضر لمباغتة رومان بوركي بتسديدة من خارج منطقة الجزاء، كما فعلها 4 مرات قبل هدفه الهوليوودي، بهز شباك المنافسين 4 مرات من خارج منطقة الجزاء، قبل أن يضيف الخامس، بتعاون نادر من الحارس السويسري، الذي قلما يرتكب هكذا أخطاء ساذجة، وفي مباريات لا تقبل القسمة على اثنين مثل الكلاسيكر، بتهور في خروجه من مرماه، ليغالطه الدولي الألماني بهدف سيبقى في الذاكرة فترة طويلة.
بالنسبة للبوروسيا، فيعاب عليه أنه لم يستغل بدايته الحماسية، بعدم أخذ المبادرة مرة أخرى، أو على الأقل، تقديم الصورة التي كان عليها في آخر ست مواجهات، بتنوع في الهجوم ومحاولات لا تتوقف على المرمى سواء من على الأطراف أو العمق، وهذه الأشياء لم نرها في الكلاسيكر، لأسباب كثيرة، منها رفع الراية البيضاء، بترك البايرن يبسط هيمنته على كل متر في الملعب، مع الاعتماد على الهجمات المعاكسة، لعدم قدرة الفريق على مجارة أسلوب فافر بالضغط العالي المتقدم من الأمام، بطريقة مغايرة تماما، للصورة التي كان عليها دورتموند قبل التوقف وأيضا أمام شالكه وفولفسبورغ، بالإضافة إلى ذلك، الهبوط الجماعي في مستوى أكثر من كان يعول عليهم السويسري فافر، في مقدمتهم السلاح الفتاك هالاند، الذي قدم مباراته الأضعف منذ وصوله من ريد بول سالزبورغ في الميركاتو الشتوي، ليس فقط لأنه أهدر فرصتين، بل لحالة الاستسلام التي كان عليها ونقص مده بالعرضيات والتمريرات الحريرية في ظهر بواتينغ ودافيد ألابا، قبل أن يضطر المدرب لاستبداله، بعد وضوح كل ملامح التعب والإجهاد عليه في آخر 20 دقيقة. والكارثة كانت في حامي العرين بوركي، الذي لم يؤدي دوره المعتاد، كمفتاح لانتصارات الفريق في الأوقات الصعبة، بارتكاب هفوة الموسم، والأصعب من ذلك، تعامله الصادم في رد فعله، بقفزة متأخرة للغاية عكست تأثر رشاقته ومرونته، لدرجة أنه بدا وكأن وزنه الزائد هو سبب تعامله غير الموفق مع ملعقة كيميتش. حتى الورقة الرابحة جادون سانشو، ظهر وكأنه شبح للنسخة التي كان العالم يتحدث عنها الأسبوع الماضي، بمساهمته في 30 هدفاً أو أكثر في الدوريات الكبرى، مثل البرغوث ليونيل ميسي في الليغا وشيرو إيموبيلي مهاجم لاتسيو في جنة كرة القدم، وذلك لعدم منحه رفاهية استلام الكرة بأريحية للركض على الطرف الأيمن كما يحب، بتكليف ألفونسو ديفيز بالضغط عليه بمجرد أن يلمس الكرة. فقط إيمري تشان، أعاد بعض الانضباط إلى الوسط، بعد مشاركته على حساب جوليان براندت في الشوط الثاني، وتعديل الخطة للطريقة المعتادة الى أقرب ما يكون من 4-3-3، باللعب بالثلاثي سانشو وهالاند وثورغان هازارد كثلاثي هجومي، لكن المحاولة باءت بالفشل، لانخفاض المعدل البدني للاعبي الفريقين، نتيجة ضغط جدول المباريات، بخوض 3 مباريات في غضون 10 أيام، بعد شهرين من الراحة والتدريب في حديقة المنزل، كأول مرة يظهر فيها التعب والإجهاد على لاعبي البايرن والبوروسيا بعد العودة، وهذا أمر متوقع، للحمل الزائد المفاجئ على عضلات اللاعبين، والذي أدى لتعرض 14 لاعبا لإصابات عضلية في أول جولة صامتة، وأيضا من المتوقع حدوثه بعد عودة الحياة إلى ملاعب البريميرليغ والكالتشيو.
بوجه عام، خرج البايرن ونجومه ومدربه بمكاسب عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، تأكد فليك أنه توصل إلى التوليفة السحرية، سواء على المستوى الأفراد، أو الطرق المتنوعة التي يغيرها أثناء سير المباراة، كما أن الفوز في حد ذاته، عزز ثقة اللاعبين في أنفسهم أكثر من أي وقت مضى، كأول فريق يحقق 7 انتصارات متتالية هذا الموسم، كما أن هدف كيميتش كان العاشر للبايرن في مرمى دورتموند في آخر 3 مواجهات مباشرة بينهما. في المقابل، لم تستقبل الشباك ولو هدف وحيد، وعلى سيرة الشباك، بات نوير ثالث لاعب يصل إلى حاجز الـ400 مباراة في البوندسليغا، من بين لاعبي المسابقة حاليا، بعد كريستيان غينتر وكلاوديو بيتزارو، وقبل أي شيء، قطع ملامس اللقب، بتوسيع الفارق مع أقرب ملاحقيه لسبع نقاط حتى إشعار آخر.
ماذا بعد الكلاسيكر؟
كما أشرنا في المقدمة، تقلصت فرص أسود الفيستيفاليا في تحقيق أول لقب بوندسليغا، منذ آخر تتويج مع يورغن كلوب، بالاحتفاظ به عامي 2011 و2012، والعكس بالنسبة للبطل المهيمن، الذي قال حارسه مانويل نوير، إن “البوندسليغا باتت في قبضتنا”، لاتساع الفارق بينهما لسبع نقاط، قبل ست جولات على انتهاء المسابقة، وبالنظر إلى المتصدر صاحب الـ64 نقطة قبل نزهة فورتونا دوسلدورف، سنجد أن أمامه اختبارين يمكن إدراجهما تحت مسمى “مواجهات غير مضمونة”، الأول سيكون يوم السبت المقبل، عندما يزور “باي آرينا”، لمواجهة باير ليفركوزن، الذي فاجأ الجميع بانتصارين عريضين خارج القواعد على فيردر بريمن بنتيجة 4-1 ثم على بوروسيا مونشنغلادباخ بنتيجة 3-1، ثم فجأة انحنى على ملعبه أمام فولفسبورغ بهدف مقابل أربعة الأسبوع الماضي، لكن لا ننسى أنه كان أول فريق في البوندسليغا يهزم فليك وفي قلب “آليانز آرينا” بهدف مقابل اثنين في الجولة الـ13، أما الاختبار الثاني، سيكون أمام بوروسيا مونشنغلادباخ، الأسبوع بعد المقبل، وهو ثاني وآخر فريق ألماني تمكن من تحقيق الفوز على فليك، وكان في الجولة التالية لهزيمة ليفركوزن، ما يعني أن فليك ورجاله، سيكونون أمام تحد مزدوج، أولا برد الصاع صاعين لمن أوقفوا انتصاراتهم قبل الاحتفال بأعياد الميلاد، لقطع مسافة كبيرة تصل لأكثر من 99% من الاحتفاظ باللقب المفضل للنادي وجماهيره، قبل مواجهة الثلاثي فيردر بريمن وفرايبورغ وفولفسبورغ في الجولات الثلاث الأخيرة، إلا إذا تنازل الفريق عن أكثر من مباراتين، وفي نفس الوقت تمكن المنافس المباشر من تحقيق العلامة الكاملة في مبارياته الست المتبقية، التي سيبدأها اليوم الأحد، بمواجهة بادربورن على ملعبه “بينتيلير أرينا”، ثم فورتونا دوسلدورف ولايبزيغ في الخارج، وهيرتا برلين وماينز واللقاء الختامي أمام هوفنهايم في “أيدونا بارك”، ولو أن الفريق الأصفر، بات مجبرا على عدم التنازل عن أي نقطة حتى نهاية الموسم، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد الخروج من دوري أبطال أوروبا على يد باريس سان جيرمان ومن كأس ألمانيا على يد فيردر بريمن في نفس الدور، ثمن النهائي، وذلك بالحفاظ على مركز الوصافة المؤهل لدوري أبطال أوروبا الموسم المقبل، أو على الأقل إنهاء الموسم ضمن المراكز الأربعة الأولى المؤهلة لذات الأذنين، في ظل المنافسة الشرسة مع لايبزيج، بنقطتين أقل من البوروسيا وكذلك مونشنغلادباخ وليفركوزن أصحاب المركزين الرابع والخامس بأربع نقاط أقل من الوصيف.
بجانب هذا الصراع على اللقب والمراكز المؤهلة للأبطال، ستتبقى ثلاث مباريات، ليسدل الستار بشكل رسمي على أصعب موسم واجهته ألمانيا منذ الحرب العالمية، الأولى ستجمع ساربروكين، الناشط في دوري القسم الرابع، بباير ليفركوزن في نصف نهائي كأس ألمانيا، والثانية مواجهة تحديد الطرف الآخر في نهائي الكأس بين بايرن ميونيخ وآينتراخت فرانكفورت، ثم النهائي، معها ستطوي الأندية الألمانية صفحة موسم كورونا بكل ما فيه، على أمل أن تتحسن الأوضاع مع عودة اللاعبين من العطلة الصيفية. فقط سيبقى لاعبو بايرن ميونيخ ولايبزيج يتدربون، إلى أن يستقر الاتحاد الأوروبي على موعد استئناف ما تبقى من دوري الأبطال والدوري الأوروبي، بعد مفاجأة ممثل شركة مشروبات الطاقة، بالإطاحة بتوتنهام بقيادة جوزيه مورينيو من دور الـ16، بالفوز عليه في الذهاب في ملعب توتنهام، بهدف نظيف، وبثلاثية بلا هوادة في إياب “ريد بول آرينا”، بينما الفريق البافاري، فسيستقبل تشلسي فرانك لامبارد في “آليانز آرينا” في إياب دور الـ16، بعد حسم موقعة ذهاب “ستامفورد بريدج” بثلاثية نظيفة من توقيع قاهر اللندنيين سيرجي غنابري ثنائية وليفاندوسكي أطلق رصاصة الرحمة الثالثة، فهل يا ترى ستعود الحياة في الدوريات الأخرى ليقرر اليويفا استكمال ما تبقى من الموسم بعد انتهاء الدوريات المحلية؟ هذا ما نتمناه كمتابعين للمركولة المجنونة، بشرط ألا يأتي على سلامة لاعب أو مدرب أو حتى عامل نظافة في ناد.