على الرغم من التقارير المتواترة حول مؤشرات عودة تنظيم الدولة/ داعش مرة ثانية ليشكل خطرا أمنيا في الموصل، وفي غيرها. لكن الحكومة العراقية لا تزال تلتزم الصمت ازاء هذا الموضوع الخطير، في الوقت نفسه تردد القوات العسكرية والأمنية التطمينات نفسها التي كانت ترددها قبل أيام من سيطرة التنظيم نفسه على الموصل في حزيران/يونيو 2014.
وفي ذات السياق، لا تزال الدولة العراقية وعلى جميع مستوياتها ومؤسساتها المختلفة بعيدة تماما عن ان تكون قد تعلمت من درس داعش! حيث تستمر المعادلة التي حكمت إدارة السلطة/ الدولة في العراق على حالها، والواضح ايضا انه لا يوجد إرادة حقيقية للاتفاق على آليات محددة لمعالجة المقدمات التي أوصلتنا إلى داعش في المقام الاول. بل ثمة إصرار على إعادة «ترتيب» المعادلة المختلة القديمة نفسها نحو مزيد من الاختلال، خاصة أن وهم القوة الذي يعيشه البعض يمنعه من تعلم الدرس الحقيقي لما حدث، الأمر الذي قد يعيد إنتاجه بشكل أو بآخر.
لقد تحدثنا طويلا عن ضرورة التمييز بين تنظيم الدولة/ داعش والذي يمثل لحظة في مسار تطور الفكر السلفي الجهادي في سياقه العراقي، وبين ظاهرة داعش بوصفها ظاهرة سياسية/ اجتماعية كانت نتاجا مباشرا لتداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق، وما أنتجه من اختلالات في بنية الدولة على المستوى الهوياتي. وأشرنا في كثير من المناسبات انه لا يمكن التعاطي مع ظاهرة داعش/ دولة الخلافة سوى على انها نتيجة للمشكلة السنية في العراق، وهذا يعني أننا بإزاء ازمة سياسية جوهرية، ولسنا امام ازمة أمنية تتعلق بتنظيم سلفي جهادي متطرف. ولا يمكن مع استمرار بقاء هذه الازمة في العراق القضاء على ظاهرة داعش أو القضاء على التطرف بشكل عام.
لقد ركزت المقاربة الدولية، والأمريكية بوجه خاص، في البداية، على ان سقوط الموصل كانت نتيجة مباشرة للسياسات الطائفية التي خلقت بيئة مواتية لداعش، ولكن الجميع تخلى عن هذه الحقيقة لينجرف في مواجهة عسكرية على مدى أكثر من ثلاث سنوات، دون الالتفات لمعالجة المقدمات التي خلقت هذه البيئة المواتية! بل على العكس من ذلك، إذ لم يعد لدى الجميع اعتراضات على استمرار، او تكريس هذه السياسات الطائفية، ما دامت قادرة على تحقيق الهدف الرئيسي وهو «هزيمة» داعش! وهذا أفضى بدوره إلى التخلي تماما عن أي نقاش جدي حول مرحلة ما بعد داعش، سواء فيما يتعلق بضمان الاستقرار المستدام، أو فيما يتعلق بإعادة الإعمار على جميع المستويات، ولم تعد مسألة تغيير السياسات، ومحاولة الوصول إلى شراكة حقيقية في إدارة السلطة والدولة، سوى اهداف ثانوية، تحضر في إطار الدعاية والعلاقات العامة حصرا.
تحولت السياسات الطائفية التي أعترف الجميع بكونها السبب الرئيسي خلف ظاهرة داعش، الى سياسات تعكس إرادة أحادية لفرض أمر واقع تكرسه علاقات القوة المختلة القائمة
عسكريا، اعتمدت الاستراتيجية العسكرية لمواجهة داعش على ما أسميناه بـ «نقلة الفرس»، أي التركيز على على طرد تنظيم داعش من المدن التي سيطر عليها، من دون ملاحقة عناصره التي تنسحب باتجاه محيط تلك المدن. هكذا وجدنا المعارك تنتقل من مدينة إلى أخرى، ومن محافظة إلى اخرى، دون تحقيق نصر حاسم يضمن هزيمة نهائية لداعش! في المقابل تكيف داعش مع هذه الاستراتيجية، عبر استراتيجيات بديلة؛ فباستثناء بيجي لأهميتها كعقدة مواصلات بالنسبة لداعش، وباستثناء الموصل لقيمتها الرمزية، انسحبت داعش من جميع المدن بعد معارك تكتيكية لتعطيل تقدم القوات العسكرية العراقية، و عمدت إلى اللجوء إلى معارك استنزاف معها في المقتربات الطويلة الفاصلة بين المدن. وبسبب التكتيك العسكري الذي اعتمدته القوات العراقية، والمبني على عناصر ثلاثة هي: قوات قتالية كبيرة، وكثافة نارية عالية، وغطاء جوي، لم تتمكن هذه القوات، بعد استعادتها الموصل، من ملاحقة عناصر داعش المنسحبين إلى مناطق تواجدهم الرئيسية، والتي سيطروا عليها قبل كانون الأول/ديسمبر 2013 عندما هاجم التنظيم مدينتي الرمادي والفلوجة، وقبل حزيران/يونيو 2014 عندما هاجم الموصل. فما زال هؤلاء ينتشرون في مساحات صحراوية شاسعة مليئة بالوديان، أو في مناطق جبلية وعرة كما هو الحال في جبال حمرين ومكحول.
مع كل ذلك تبدو القوات العراقية غير مؤهلة حتى اللحظة للقيام بعمليات خاصة تعتمد على قوات مرنة في الحركة وذات تدريب عال يمكنها ملاحقة تنظيم الدولة/ داعش في المناطق التي يتواجد فيها. وقد أشرنا في مقال سابق إلى ان تنظيم الدولة/ داعش ما زال يمتلك القدرة على خوض حرب استنزاف ضد القوات العسكرية والأمنية العراقية، فضلا عن قدرته على القيام بعمليات ارهابية نوعية كالتي كان يقوم بها من قبل، وهو ما تؤكده التقارير التي تصل حول نشاطاته مؤخرا.
وبالرجوع الى المشهد السياسي، فقد تحولت السياسات الطائفية التي أعترف الجميع بكونها السبب الرئيسي خلف ظاهرة داعش، الى سياسات تعكس إرادة أحادية لفرض أمر واقع تكرسه علاقات القوة المختلة القائمة، في ظل تواطؤ جماعي إقليمي ودولي بالتعاطي معها والقبول بها ضمنيا! فاقم ذلك غياب المبادرات التي تتعامل مع النتائج المادية لحرب داعش! فلم تعد ثلاثية: إعادة الإعمار، وعودة النازحين، وتوفير الأمن، تحظى بالأولية لدى الحكومة العراقية، او المجتمع الدولي على حد سواء! فالخطاب الحكومي لم يعط بدوره أية خصوصية لهذه المناطق، وهو يتحدث عن إعادة الإعمار بوصفها عبارة تعني جميع المحافظات العراقية، وهو ما انعكس في مشروع الموازنة الاتحادية لعام 2019 حيث يبدو الاهمال الواضح للمحافظات التي تحملت وطأة الحرب على داعش! بل إن الأرقام تظهر أن هذه المحافظات لم تحصل على نسبتها المقررة دستوريا من هذه الموازنة فالدستور يقرر (ان الموازنة العامة يجب أن توزع وفقا للتوزيع السكاني لتأمين التنمية المتوازنة)!
وقد عكس المجتمع الدولي، من خلال مؤتمر الكويت للمانحين، لامبالاة غريبة ازاء إعادة الإعمار في المناطق المدمرة بفعل الحرب على داعش، وإغفالا متعمدا للسياق السياسي الذي يتطلبه مفهوم «إعادة الإعمار» (الإصلاح الهيكلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وامنيا)، حيث تواطأ المؤتمرون على التعاطي مع ملف الاعمار بوصفه عملية فنية معزولة عن المشهد السياسي، من خلال بإعادة إعمار البنية التحتية المادية حصرا! لذلك انتهى المؤتمر الى كارثة حقيقية فرضت على العراق مزيدا من الاقتراض الخارجي!
لقد قلنا سابقا أن درس الموصل لم يتعلمه أحد؛ فالمقدمات جميعها التي أنتجت فاجعة الموصل وما بعدها لا تزال قائمة. من السياسات الطائفية، إلى الفساد المستشري في الأجهزة العسكرية والامنية، إلى الشعور بالانفصال عن الدولة. وقد أضافت الحرب على داعش وتداعياتها عوامل أخرى: دمار هائل، وعجز كامل للحكومة المركزية والحكومة المحلية عن استعادة الحد الادنى من الخدمات (ما زالت جثث المدنيين الذين سقطوا بفعل الحرب في الموصل تنتظر من ينتشلها من تحت الأنقاض)، والاختلالات في علاقات القوة بين مكونات المجتمع الناتجة عن تدخل قوى مسلحة وحزبية مغطاة سياسيا، وتحول هذه المحافظات لإقطاعيات لأفراد او جماعات بغطاء سياسي أيضا. وعدم الاهتمام بكل ذلك مرة اخرى دوليا ومحليا كفيل بإعادة الوضع إلى لحظة الموصل ثانية، ولو بسيناريو مختلف.
كاتب عراقي
عنوان (كلاكيت: داعش مرة ثانية) وطريقة اختيار لمحاور وتحليل رائعة، أشكر د يحيى الكبيسي عليها.
وأضيف تقصير/فساد دلوعة أمه (الموظف) في أداء الوظيفة بعد 2/8/1990 هي مشكلة المشاكل،
بعد ضياع مفهوم الانتماء إلى دولة الحداثة (الكويت) في أربع ساعات، وهو نفس ما تكرّر في (العراق وسوريا) يوم 9/6/2014
وبخصوص عنوان (منظومة متكاملة لمواجهة الجنون التكفيري) وما قرأت اسفله بالأمس،
فأنا أختلف مع الوزير البحريني السابق 180 درجة، لماذا؟
وأهم شيء معرفة لماذا، لأن هناك ثلاثة محاور لتعريف الموضوع (من هو المؤمن) من وجهة نظري،
محور تركي إيراني (شيعي/صوفي)، في تعريف معنى الإيمان.
ومحور تركي مع الكيان الصهيوني (علماني/ديمقراطي)، في تعريف معنى الإيمان.
ومحور أردني ومغربي مع دول مجلس التعاون في الخليج العربي (آل البيت لشعب الرب المختار) في تعريف معنى الإيمان.
لماذا؟