زيارة ثانية إذن لماكرون إلى بيروت، ستة أسابيع بعد الانفجار المفزع، الذي هز ميناء بيروت وعاصمتها، وأودى بحياة زهاء المئتين، وأدخل نفقات الإعمار في دوامة من التقديرات تلامس الـ15 مليار دولار.
كان بالإمكان أن أبدأ التحليل من حيث بدأه معظم المحللين، حين تناولوا التأثيرات السياسية المحتملة لزيارة الرئيس الفرنسي. لكن بالإمكان أيضا البدء من حيث بدأ الرئيس نفسه، فهو لم يستهل زيارته لبيروت (لو استثنينا تصريحاته لوسائل الإعلام لدى وصوله إلى المطار) من البوابة السياسية، بل باشرها من بوابة الأدب والفنون، من منزل السيدة فيروز تحديدا، في بادرة مائلة إلى تحقيق المفاجٱت كما عودنا (كأن يختتم إقامته بزيارة قطب آخر من أقطاب الطرب اللبناني هي السيدة ماجدة الرومي).
يحدث ماكرون قطيعة مع سائر الأعراف الدبلوماسية – السياسية اللصيقة بالزيارات الرئاسية، التي لا تقدم المجال الثقافي أبدا على القضايا السياسية، خاصة عندما تكون على درجة من التعقيد، كالتي تميز الساحة اللبنانية.
طبعا، لم يغفل ماكرون أيا من جوانب السياسية الداخلية اللبنانية، وكفانا تذكيرا كيف استشاط الرئيس الفرنسي غضبا، حين سرب جورج مالبرونو الصحافي الشهير في جريدة «لوفيغارو» حديثا دار بينه وبين مسؤول لبناني بارز، قال له فيه الرئيس الفرنسي في المجمل: «قبل الدخول في أي مخطط تسوية ناجح، عليك أن تثبت لي أنك لبناني وأنك تفكر في مصلحة البلد، قبل أن تدعم هذا الطرف أو ذاك في سوريا أو في اليمن». لقد بدأ عهد جديد، ونعلم جيدا أهمية مصطلح «عهد» في الأدبيات السياسية اللبنانية. عهد جديد بتفويض فرنسي إذن؟ صحيح أن مجموعة من الثوابت ترسخت في الواقع الدبلوماسي الدولي، وتعطي لفرنسا هامش مناورة يؤمن مراقبون بفعاليتها. لكن رياح ثوابت أخرى معاكسة، ومنطقية، تهب أيضا: فليس من صلاحيات فرنسا، لا هي ولا أي قوى خارجية أخرى، أن تأخذ على عاتقها ما هو مفروض أن تضطلع به حكومة وطنية معينة حديثا، ومعروف أن إحالة موضوع التفجير إلى لجنة تحقيق دولية، ليس محل ترحيب من الجميع، وليس أضعف الأسباب أن تقرأ الخطوة وكأنها بادرة ضغط فرنسية.
اختيار ماكرون تاريخ الاحتفال بالإعلان عن «لبنان الكبير» لزيارته، رجع صدى لفترة تاريخية يجب أن تطوى لإرساء لبنان لكل اللبنانيين
أما عن مسألة تفويض فرنسا للاضطلاع بالملف اللبناني، بناء على ثقلها التوسطي المعروف، فصحيح أن البعض ذكر أن الورقة الفرنسية ذات مصداقية لبنانيا، أكثر من الأمريكية بما لا يقاس، على أساس أن فرنسا تعتبر حزب الله مكونا من مكونات الطبقة السياسية اللبنانية، ينخرط في الحوار السياسي كغيره من المكونات. وعلى ذكر المكونات، لا أحد يمكنه إنكار أن تصريحات الرئيس عون المتعلقة بإقامة دولة مدنية أدخلت لبنان في فصل جديد، حان وقت كتابته من دون كلمات مثل «طوائف» أو «فصائل». ولا أحد يستطيع إنكار أيضا أن إيران، أحد كتّاب هذا الفصل الرئيسيين، أعطى موافقته الضمنية على الدفع بالموضوع قدما.
أما فرنسا، فلا يمكن إنكار دورها التاريخي في رسم ملامح الدولة اللبنانية، وفق خريطة طريق صيرتها الظروف التي أعقبت فترة الانتداب، ولا أحد يمكنه إنكار كذلك أن اختيار ماكرون تاريخ الاحتفال بالإعلان عن «لبنان الكبير» لزيارته، إنما هو رجع صدى لفترة تاريخية أصبح عاجلا أكثر من أي وقت مضى، أن تطوى في سبيل إرساء لبنان لكل اللبنانيين، وكل اللبنانيين يعني كل اللبنانيين….
اختتم الرئيس ماكرون إقامته اللبنانية الثانية بزيارة لماجدة الرومي…وسمعنا من الرئيس الفرنسي «كلمات ليست كالكلمات»… فالأيام بيننا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي