«سوسيولوجيا القدس»، هكذا عنونت باحثة فرنسية عملا أعدته عن القدس صدر لها مؤخرا. ونحن في أوج صراع محتدم دامٍ تكثر بشأنه سيناريوهات المخارج السياسية من دون تبلور واضح لمعالم فك عقدها، استحضر واقعة طبعت شبابي لن أنساها. كانت الساعة حوالي السادسة والنصف مساء، كنت وبعض الشباب على متن سيارة في باريس نجوب ضفاف السين، وقد دخلنا سيل الاكتظاظ العارم المعتاد الذي يعقب فراغ الناس من يوم عملهم. حينها، طلبت من زميلي الذي كان يقود السيارة أن يفتح جهاز المذياع ويوجهه لمحطة عربية لم أتذكرها، علها إذاعة الشرق، علها مونت كارلو دولية وأكيد أن عديد القراء سيعرفون. كان البرنامج يقدمه صحا في يحمل اسم «المقدسي». وقتها كنت حديث العهد في دراسة التاريخ والحضارة العربيتين، ولم أربط اللقب بمعناه الأصلي أي «من سكان القدس». كانت لحظات اكتفيت فيها بتلقي مزيج من الألفاظ الرخوة ملأت أسماعي في تناغم ناعم حفزني إلى فك شيفرة المعنى لاحقاً.
«المقدسي».. ما أجمل هذا الاسم، الذي تحمله عائلات عربية تعددت انتماءاتها بمفعول الانتقالات الجغرافية، لكنها تلاقت في أن هذه الانتماءات تتجمع في بوتقة واحدة، أرخت لمهد الإنسانية، هكذا اختزلت كلمة «المقدسي» عندي شعرا فظل يحملني تلاطم أمواجه اللفظية التي تطرب لوقت طويل.. ثم وصلت إلى «القدس» ورهاناتها السياسية، بدءا بالسماع عن «لجنة القدس» أيام طفولتي بالمغرب وكان يترأسها وقتها الملك الراحل الحسن الثاني، قبل أن يستلم زمام قيادتها ابنه الملك محمد السادس. ثم جاءت اللحظة الفارقة التي كانت غنائية. رب أغان عربية متنوعة سمعتها أيام طفولتي في المغرب، بعضها أطربني، بعضها دغدغ أسماعي، بعضها الآخر لفت انتباهي، لكن قلائل تلك التي شدتني شدا فنقشت نغما وهيجت مشاعر وأرسلت رسالة، في جو لا تزال تلفه براءة الطفولة، أي بعبارة أخرى، أنسب أرضية لإبقاء اللحظات الفارقة محفورة في الذاكرة.
«لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي».
تحجر اللاوعي الجماعي الغربي، الذي يطبق منطق الصراع نفسه على الواقع الثقافي المفروض أن يستبدل الانقسام بالتقاسم ليساهم في قيادة المسيرة إلى التعايش الأبدي
في البداية كانت النغمة، ثم جاءت الكلمة، ثم مرت السنوات، لكن لم تمر الأغنية التي تختصر كل التفاصيل، والتي، كما يقال عندنا، لم تترك ما يقال بعدها. لم يعجبني كلام الباحثة الذي سمعته من الإذاعة فرنسية، حينما وصفت واقع القدس الراهن بـ»نتاج لعدة استيلاءات». لم تقصد المعنى السياسي أكيد، قصدت تعدد الروحانيات والخلفيات الثقافية التي ترسم على حد تعبيرها «فسيفساء»، هذا صحيح، لكن لم تكن كلمة «استيلاء» في محلها. ولو سألت محللا نفسيا لفسر الأمر بتحجر اللاوعي الجماعي الغربي، الذي يطبق منطق الصراع نفسه على الواقع الثقافي المفروض أن يستبدل الانقسام بالتقاسم ليساهم في قيادة المسيرة إلى التعايش الأبدي.
نعم منطق الاستيلاء حاضر سياسيا وكالدوامة التي لا تنتهي، لكن وحده مشروع التعايش الذي تنيره منارة الثقافة، على أرضية تتخبط فيها السياسة منذ 56 عاما، قادر على تحقيق الصمود المثمر. إنه صمود التاريخ الذي يكرس المنطق مرة أخرى، منطق القرارات الأممية ومنطق أشهرها، القرار 242، لب الحل القادر وحده على إلغاء لب الصراع، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967. بين أمل وإحباط، بين غضب ساطع وصلوات خاشعة، نتربص نحن أبناء هذا الجيل مدعومين بعزيمة أجدادنا كل باب موارب تلوح منه بارقة سلام.
لن يقفل باب مدينتنا
كلنا مقدسيون!
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي