ترافق التمهيد للانتخابات النيابية اللبنانية التي أجريت يوم الأحد الماضي بقدر كبير من التفاؤل والحماس لدى بعض الفئات التي شاركت في انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. فبعد النشوة والآمال العظيمة التي أحدثتها «الثورة» بأنها سوف تفضي إلى تكوين حركة شعبية تتخطّى الحواجز الطائفية بصورة مستديمة وتشكّل رافعة تتيح قلب النظام السياسي والاجتماعي اللبناني العفن، وبعد إحباط تلك الآمال التي ما لبث أن تبيّن أنها أوهام، تجدّدت الأوهام لدى قسم من المشاركات والمشاركين في «الثورة» بإحداث التغيير عن طريق الانتخابات.
بيد أن ثمة فرقا كبيرا ونوعيا بين الأوهام في الحالتين. فإن أوهام «17 تشرين» كانت ناجمة عن إسقاط الأماني على الواقع العنيد، أي أنها كانت قائمة على مبالغة في التفاؤل في قدرة الحراك الجماهيري على الاستدامة في أطر تنظيمية مناسبة، على غرار التجربة السودانية التي باتت نموذجاً يُحتذى به في هذا الصدد على النطاق الإقليمي، كما قامت على مبالغة في سوء تقدير قوة النظام الطائفي المترسّخ في لبنان وقدرته على امتصاص الصدمة التي أصيب بها من جراء «الثورة». والحال أن المبالغتين متلازمتان، إذ إن قدرة النظام على الصمود رهنٌ بغياب إطار مُعترَف بشرعية تمثيله للحراك وقادر على التعبير عن أماني «17 تشرين»، وهو غيابٌ أدّى إلى تبخّر الطاقة الثورية بلا أن تتمكّن من إحداث التغيير المنشود.
أما الأوهام المتعلّقة بالانتخابات النيابية، فكانت مغلوطة من أساسها في أنها توخّت تغيير النظام بأداة هي من أهم أدوات النظام نفسه. فإن النظام الانتخابي اللبناني مصاغ بحيث يُعيد إنتاج التركيبة الطائفية، وهو نظام قائم على المحاصصة الطائفية بحيث لا يمكن لأحد أن يترشّح سوى على مقعد مخصّص لإحدى الطوائف بما يكرّس أولوية الانتماء الطائفي في الشأن السياسي، فيما تشكّل تلك الأولوية الركن الذي تقوم عليه محاصصة مناصب السلطة ومنافعها بين الجماعات الطائفية التي تتكوّن منها الطبقة الحاكمة اللبنانية. فإزاء هذا الحاجز المنيع الذي تشكّله مؤسسات النظام السياسي القائم، لا سبيل لتغيير النظام في لبنان سوى بانتخاب مجلس تأسيسي على أساس التمثيل النسبي للقوائم السياسية، بدل المحاصصة الطائفية، ليقوم هذا المجلس بصياغة دستور جديد للبلاد.
ولا عجب بالتالي من أن معظم الجماعات التي خاضت المعركة الانتخابية بين الفئات التي شاركت في «الثورة» هي جماعات معارِضة للأطراف المهيمنة في الطاقم السياسي اللبناني الحاكم أكثر منها معارِضة للنظام بذاته. وقد عبّرت عن هذا الأمر نوعاً ما سيادة شعار «كلّن يعني كلّن» بدل شعار سائر الانتفاضات الثورية التي شهدتها المنطقة العربية والقائل إن «الشعب يريد إسقاط النظام». بل سمح ذلك لبعض الجماعات المنتمية إلى النظام الطائفي اللبناني منذ القِدَم، على غرار «حزب الكتائب»، أن تركب قطار «الثورة» بل وتدّعي قيادته.
أساس السلطة الحقيقي في لبنان ليس المجلس النيابي، بل هو قوة السلاح كما في كافة دول المنطقة العربية حيث الغرض الرئيسي من الانتخابات لا يعدو إضفاء شرعية زائفة على السلطة القائمة
أما النتيجة فهي أن النظام الطائفي اللبناني تمكّن من احتواء الغضب الشعبي وتجييره في منحى يتلاءم مع النظام نفسه. فبعيداً جداً عن شعار «كلّن يعني كلّن»، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، كما يُقال، فتراجع وزن التحالف الطائفي الذي فاز بانتخابات عام 2018 وازداد من جديد وزن جماعات تنتمي إلى التحالف الطائفي الذي رجحت كفّته في الانتخابات التي سبقتها، والتي جرت في عام 2009 (تم تأجيل الانتخابات اللاحقة مراراً حتى عام 2018). بكلام آخر، فقد عادت قوى «14 آذار» (ولا سيما حزب «القوات اللبنانية») إلى الصعود على حساب قوى «8 آذار»، أي أن ائتلاف القوى المدعومة من المملكة السعودية ازداد نفوذه من جديد على حساب ائتلاف القوى المدعومة من إيران ومن النظام السوري. وأما الأطراف القليلة جداً التي فازت بمقاعد وهي جديدة حقاً وفالتة من الانتماء إلى أحد الائتلافين الطائفيين، فسوف يسعى النظام بسرعة إلى استيعابها بحيث تشارك في لعبته وفساده بصورة أو بأخرى.
هذا وثمة حقيقتان تفرضان نفسيهما في جميع الأحوال إزاء المشهد اللبناني الحالي. الحقيقة الأولى أن لبّ المشكلة في لبنان كما في سائر الدول العربية يكمن في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الشعوب والتي وصلت في لبنان إلى حالة من الانهيار قلّ مثيلها. فمن هذا المنظور يتضّح تماماً أن الانتخابات الأخيرة لن تغيّر شيئاً في التركيبة الطبقية والفئوية للسلطة اللبنانية، إذ لا تسمح نتائجها بأدنى درجة من الأمل في تغيير السياسات الاقتصادية التي أوصلت البلاد إلى حالة الانهيار والنهب المعمّم التي تسود منذ عام 2019 والتي شبّت «الثورة» ضدها بالأصل. فلن تحلّ هذه الانتخابات الأزمة العميقة التي يعاني منها لبنان، بل سوف تستمر الأزمة بما سوف يؤدي لا مُحال إلى انتفاضات جديدة ومظاهر أخرى من الأزمة السياسية.
أما الحقيقة الثانية فهي أن أساس السلطة الحقيقي في لبنان ليس المجلس النيابي، بل هو قوة السلاح كما في كافة دول المنطقة العربية حيث الغرض الرئيسي من الانتخابات لا يعدو إضفاء شرعية زائفة على السلطة القائمة. والمعروف أن قوة السلاح الأعظم في لبنان هي التي يملكها «حزب الله» والتي سمحت له بفرض مشيئته قبل عام 2018 عندما لم تكن لتحالفه الانتخابي أغلبية في المجلس، وهي الحالة التي جدّدتها انتخابات يوم الأحد الماضي. فإذا أراد الشعب إسقاط النظام في لبنان، لا بدّ له من تكوين حركة شعبية مؤطَّرة بحيث تستطيع أن تشلّ كافة أسلحة النظام وتُبطل دورها المحافظ والرجعي كشرط لا غنى عنه من أجل إنجاز تغيير حقيقي.
كاتب وأكاديمي من لبنان
لا سبيل لتغيير النظام في لبنان سوى بانتخاب مجلس تأسيسي على أساس التمثيل النسبي للقوائم السياسية، بدل المحاصصة الطائفية، ليقوم هذا المجلس بصياغة دستور جديد للبلاد ،، هكذا إذن بكل بساطة وبمجرد جرة من فأرة الحاسوب ينطلق التعبير بجزمه النهائي لكي يحدد مصير بلد بأكمله حتى قبل أن يخبر مواءمةالدستورالجديد وحتى قبل أن يقوم المجلس الذي لم يُنتخب بعد بصياغة هذا الدستورنظرا لتثقيفه شرائح معينة من الجنود الإنكليز عن سياسةواقتصادالبلدهذه المرة التي سبقها تثقيف مماثل لشرائح معينة من الجنود الفرنسيين بحسب متطلبات المكان أي مكان الإقامة ومستلزمات الزمان أي زمان العقد الموقع عليه مع هذه الجهة أوتلك المؤسسة
شكرًا أخي جلبير الأشقر. انتفاضة جديدة ربما ستكون أكثر نجاحًا من سابقتها، فهل عي قادمة! أم أن الإنتخابات ستقود إلى شيء جديد في لبنان؟.