عالم العلاقات الإنسانية شديد التعقيد ولم يستطع أحد فهمه، ولربما كان ذلك سبب انتشار العديد من الكتب والمقولات التي تحاول أن تضع أسسا لفهم تلك العلاقة والتعامل معها، منذ القدم. ومن الطريف أن أي صانع محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي يحصد انتباها عارما ومتابعين بالملايين عند نشر تلك المقولات، وكأنها قوانين، حتى إن لم يكن قادرا على تطبيق أي منها على نفسه.
تلك العلاقة المعقدة بدأت منذ بداية الخليقة؛ منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل، وكأنها كانت نذيرا بأن أي علاقة يدخل فيها العنصر البشري سوف تكون نموذجا مكررا لعلاقة قابيل بأخيه هابيل. ومن العلاقات التي فيها العنصر البشري ركنا أصيلا، هي علاقات الدول مع بعضها بعضا، فالحلفاء بكل سهولة قد يصيرون ألدّ الأعداء، ويذكر التاريخ مئات الأمثلة على ذلك، ولعل أشهرها تلك التي سادت في الحرب العالمية الثانية. وفي محاولة لأن تصبح الدول حاليا أكثر تعقّلاً، ساد مفهوم الصديق – العدو، والعدو – الصديق بين الدول، وبذلك تم وضع منهاج جديد للعلاقات الإنسانية التي ربما استفادت من أقوال الحكماء.
ومن أشهر الحكماء الذين لهم عميق التأثير، ليس فقط على أفراد أو جماعات، بل على فكر واستراتيجيات دول بأكملها، كان الحكيم والفيلسوف الصيني الشهير كونفوشيوس، الذي يُتداول اسمه بين العامة في جميع أنحاء العالم بكل تبجيل، ولربما لا يعلم أحدهم أشهر تعاليمه، أو على النقيض، ربما يكرر الآخرون مقولاته، دون معرفة قائلها.
ولد كونفوشيوس (551-479 ق.م) في الصين قبل نحو قرن من الزمان من ميلاد الفيلسوف الإغريقي «أرسطو» ويعد المعلم الأول في الصين الذي دعا لأهمية التعليم وإتاحته لجميع أبناء الشعب، لأن التعليم الجيد هو السبيل الوحيد لتهذيب النفس والارتقاء بها، ما يفضي إلى التقدُّم. وبتزايد أتباعه، أصبحت الكونفوشيوسية بمثابة ديانة في الصين.
قد يعلم الكثير بوجود عداوة متأصلة بين اليابان والصين، ويذكر التاريخ الحروب الضارية التي شنتها اليابان على الصين، بيد أن ما قد لا يفهمه البعض هو تطابق طريقة الملبس وشكل المنازل والاحتفالات في اليابان مع تلك التي في الصين. أضف إلى ذلك، أسلوب الكتابة وشكل الحروف شبه متطابق، بل توجد آلاف الكلمات الصينية الأصل مُدرجة في اللغة اليابانية. لكن الذي يثير حقا الدهشة أن اتباع قواعد الأدب والتربية وأصول اللياقة تقريبا موحَّد منذ سالف العصور ولم يتغيَّر إبان الحرب العالمية الثانية، حتى في العصر الحديث، تبجِّل كلا الدولتين العلم والتكنولوجيا، فبلغت كلتاهما ذروة الصناعات التكنولوجية وأصبح عرش كلتيهما غير قابل للزعزعة. ويكمن السِّرّ في ذلك هو أن كلا الدولتين تشربان من الكأس نفسها، أو بمعنى آخر، مصدر التعليم الذي تنهل منه كلتاهما واحد. فالفكر الكونفوشيوسي، انتقل إلى اليابان عبر كوريا في القرن الثالث بعد الميلاد، وسهل ذلك وجود طريق الحرير الذي كان يربط الدول الآسيوية بالصين والعالم. والجدير بالذكر أن الفكر الكونفوشيوسي عندما انتقل إلى كوريا، كان بناء على رغبة من الإمبراطور الكوري حينها، لأن يتلقى تعليما رفيعا. ولإعجاب اليابانيين بما أصبح عليه الإمبراطور الكوري من علم، استقدموا المعلِّم الصيني وانج رِن، الذي أتى للإمبراطور ومعه عشرة أجزاء من كتاب «المختارات» وكذلك كتاب «ألف شخصية كلاسيكية» للحكيم كونفوشيوس. إلَّا أن الفارق الأعظم هو طريقة تطبيق تعاليم كونفوشيوس في الصين واليابان، ففي الصين، تعد الكونفوشيوسية ديانة، لكن تتخذها اليابان منهاجا تعليميا أكاديميا.
وفي حين أن حضارة الشعوب الآسيوية مغايرة تماما عن الحضارة الغربية السائدة حتى في الوطن العربي، يلاحظ أن للصين واليابان منهاجا حضاريا قد يكون خاصا بهما فقط؛ فكلا الشعبين يتميَّزان بالمثابرة والجلد الذي لطالما أصبح محل تقدير من العالم أجمع. ولا عجب، فمن أهم العقائد الكونفوشيوسية هي الصمود، تبعا لمقولته: «ليس من المهم أن تتقدم ببطء، لكن الأهم ألَّا تتوقف». وعلى هذا الأساس بنت كل من الصين واليابان حضارتهما الحديثة، التي تذهل العالم، على الرغم من تحطُّم أمجادهما لعدَّة مرَّات، لكن في كل مرة كانت لكلا الدولتين القدرة على إعادة البناء، تبعا لوصية كونفوشيوس التي يقول فيها: «إرادة الفوز والرغبة في النجاح، والإلحاح في الوصول لكامل قواك الكامنة هي المفاتيح التي تفتح مغاليق التفوُّق الشخصي».
ولأهمية التعاليم الكونفوشيوسية، حرصت طبقة الساموراي الياباني على تعلُّم تلك المبادئ التي كانت تملأ قلوبهم بالقوَّة والصلابة وحب المعرفة، ولو في أحلك الظروف. فمحارب الساموراي ليس مجرَّد مقاتل يعتمد على قواه البدنية، بل يجب أن يكون العلم وحب المعرفة مكونين رئيسيين في شخصيته. ولهذا، حرص الإمبراطور إيدو Edo على تعليم الكونفوشيوسية في مدارس تدريب الساموراي. وانتقل تلقى التعاليم الكونفوشيوسية تلك إلى أولاد أبناء القرى عبر مدارس الساموراي، والذين بدورهم تناقلوها في ما بينهم.
وتأثير الكونفوشيوسية على الأدب الياباني جلي، فالحبكة الدرامية في أي رواية أو عمل أدبي ياباني قد يجدها القارئ الغربي شديدة الملل ومُكررة، لكن الغريب أنها جاذبة ولا يستطيع القارئ إدراك عظمتها إلَّا بعد الانتهاء من قراءة العمل الأدبي بأكمله، والسبب الرئيس وراء ذلك، أن العمل الأدبي الياباني هو رحلة عبر الحياة وعبر الزمان، يهتم فيها الكاتب بالتفاصيل. فالأدب بالنسبة للحضارة اليابانية ليس مجرَّد أحداث متعاقبة لها ذروة وتُختتَم بالحل، بل إنها مجرَّة عملية متسلسلة، لا يمكن أن يُستقطع منها جزء. والخاتمة قد تبدو صادمة للقارئ لخلوَّها من عنصر التشويق، أو بلوغ ذروة السعادة؛ لأن العمل الأدبي ينتهي فقط عند استكمال العملية المتسلسلة. ويتميَّز الشخوص في جميع الأعمال الأدبية بأنهم يؤثرون إخفاء مشاعرهم، فالصمت بالنسبة لهم هو الصديق الذي لا يخون أبدا، وفقا لتعاليم كونفوشيوس، لكن أيضا المحب فقط هو من يستطيع أن يستشعر ما يكمن في داخل من يحب. ومن خصائص أسلوب الكتابة في الأدب الياباني «الواقعية» التي قد تبدو في كثير من الأحيان صادمة ومملة؛ فالأدب ليس فقط وسيلة لدخول عالم المعرفة، بل التعرُّف على مدى جهل الذَّات، ومن ثمَّ القدرة على تحسين القدرات والمهارات الفردية والجماعية معا. ولا عجب في أن صدق التجربة الأدبية التي يُعبِّر عنها كتَّاب الأدب الياباني قد أهَّلت اليابان للفوز بجائزة نوبل للآداب لثلاث مرَّات؛ ففي عام 1968 فاز بها الكاتب كاواباتا ياسوناري Kawabata Yasunari، وفي عام 1994 فاز بها أُووِي كنزابورو Ōe Kenzaburō، وفي عام 2017 فاز بها كازو إيشيجوروKazuo Ishiguro. والجدير بالملاحظة فوز 29 مواطنا يابانيا بجائزة نوبل في مجالات الطب والفيزياء والكيمياء والآداب وكذلك السلام.
لقد كانت أسس الحضارة اليابانية المبنية على الكونفوشيوسية محفِّزا فعَّالا للتقدُّم، تم فيها إعلاء كلمة التفاني وحب الوطن وحب العمل على أي شيء آخر، أو كما يؤكِّد كونفوشيوس: «من السهل أن نكره، ومن الصعب أن نحب. وهكذا تجري الأمور بالنسبة لأي شيء؛ فجميع الأشياء الجيدة صعبة التنفيذ، في حين أن الأفعال السيئة والمشينة من السهل جدا تنفيذها».
كاتبة مصرية