رواية «كل البشر كاذبون» للروائي ألبيرتو مانغويل، يشعر فيها المرء بأن الرواية الحديثة مفككة، مقسمة إلى جزر، ويمكن إعادة إنتاجها من قبل الناقد أو المتفرج أو المراقب أو القارئ لهذا العمل الأدبي أو غيره، فالمطلوب من كل واحد أن يبقى متيقظًا يتابع الخيواط المتناثرة، وأن يكون مشاركًا في كل لحظات القراءة للنص.
هذه النصوص، الرواية، صعبة القراءة للقارئ العادي، تشبه إلى حد كبير رواية ساراماغو، «سنة موت ريكاردو ريس» أو رواية «في ظل الريح» لكارلوس ثافون، نستطيع أن نسميها الروايات الفوق حداثية.
«وقد أوضحت له كيتا، تبريرًا لحضوري، أنني كاتب ومواطن، ولكي أفرش الحديث، سألته بحماقة، ما هي الكتب التي نشرها. ابتسم لي بيفيلاكا للمرة الأولى، وذهب يجتر ذكرياته بالطريقة التي يراها، ثم أجابني:
ـ لا يا أخي، أنا لا أكتب الكتب. فأنا أكسب رزقي من كتابة روايات مصورة.
يعود المتحدث الذي ورد ذكره في النص أعلاه، واسمه تيراديلوس، الذي كلم بيفيلاكا، ليكلم تيراديلوس:
ربما يجب عليّ يا تيراديلوس، أن أبين لك ما هي الروايات المصورة، إذ يبدو لي أنكم في فرنسا نادرًا ما تهتمون بهذا النوع من الأدب. ثمة عبقري جمع في عام ثلاثون وتسعمئة وألف، بين السينما، والرسوم المتحركة، والقصص الرومانسية، وزاوج بين التصوير والحكاية الحوارية. وكان هذا النوع من القصة هو الذي يعلق عليه بيفيلاكا. هي نصوص مفتوحة على أفق مفتوح، لأنها بدون نهاية، وبدايتها مخاتلة، تنحو إلى الانفتاح رويدا رويدا لتتسع، بدون أن تكون لها نهاية. نهاياتها كنوع من التواطؤ بين الكاتب والنص، ليقول لنا في النهاية: لقد سئمت من هذا الطريق الطويل، وعليّ أن أتوقف هنا لأنني تعبت وتعب معي أبطالي في مغامراتهم.
ونعود للنص على لسان تيراديلوس: «ومثل أي شخص يأسره ميله إلى الكتب، فإن فكرة إضافة مجلد إلى المكتبة العالمية، أغوتني وكأنها الخطيئة. فتخيلت شخصية، مبدعًا، فنانًا أخفق في حياته بسبب كذبة واحدة. وتقع أحداث الرواية في بوينس آيرس، ولأنني أثق بمخيلتي، أقل مما أثق بذاكرتي، فقد قلت لنفسي إن مسارت بيفيلاكا تغذي شخصيتي المتخيلة. وسرعان ما تبينت أن ذكريات بيفيلاكا ينقصها الانفعال، واللون، وهي تخلو من سبق الإصرار».
هل نحن أمام عبث؟ أم أمام رموز غريبة متداخلة، يحتاج الناقد إلى معاول للهدم وإعادة بناء البناء الروائي، وفق أسس فنية مغايرة أو مخالفة لما هو قائم؟
إن قدرة الأدب الحديث تجعل المرء، النخب، القارئ، شريكًا في صياغة الرواية وفق منظوره، وكأننا نرى أن المؤلف يترك فراغات تحتاج إلى إملاء، وكأنه كائن عاجز يريد أن يبعثر الكلمات في فضاء الورق، ويترك للقارئ مهمة إعادة ترتيب الأحداث وفق ثقافته أو قناعاته، وكأنه يريد إعادة تأويل النص، وكأن النص عاجز أو غير متماسك أو غير قادر على طرح ذاته.
البعد الثالث في الرواية هو كائن آخر يعيش في الخفاء، يتم تحريكه من خارجه، كائن أعزل، مراقب صامت، مهزوم من الداخل، يخرج إلى الضوء بعض المرات، ثم يعود ليقبع في الظلمة التي خرج منها مؤقتًا. هل هذا البعد ميت ويجري إحياءه، ليساعدنا على تنفيذ المهمات التي يعجز عنها الواقع، واقع الرواية والحقيقة، هذا يصعب علينا قوله.
عندما نكتب نحن إنسان آخر، ننفصل عن الواقع الملموس، ونتحول تحولات نوعية في رسم الصور على الظلال التي نراها في الثقافة والفكر، لأن الحياة لا معقولة، نعقلنها للضرورة، لنصعد على أكتافها.
الرواية الحداثية، أو الفوق حداثية، تجعلني في حالة اندهاش، تعب، قلق، ترقب، ألم، وجع، نشوة كونية، نيرفانا مطلقة، أذهب مع الكلمات إلى الكلمات، وأسرح حيث لا حدود للرواية ولا سقف ولا أطراف. إنها كالعنكبوت لها نسيج رقيق متداخل، ثم يسمك ثم يعود ليصبح رقيقًا، يتداخل فيه الخارج مع الداخل ولا توجد أطراف إلا في لحظات مؤقتة سرعان ما يصبح الحديث قديمًا والقديم حديثًا، وبالتناوب، والعكس هو الصحيح.
الكتابة هي علاقة حميمية من نوع خاص بين الكاتب والقارئ أو المتلقي، وواجب على الكاتب أن لا يشعر قارئه بالغربة أو الضياع، أن يبقى متلاصقًا مع الكلمات والأسطر حتى يصل إلى الهدف.
عندما يتعلق الأمر بذكريات الطفولة، يشعر المرء بدفء الكلمات التي تنساب على لسان بيفيلاكا أو ألبيرتو مانغويل:
كان يحن إلى زمن مضى وليس إلى مكان، وإلى جغرافية مصنوعة من ساعات مختفية في شوارع لم يعد لها وجود، ينتظر على عتبات بيوت متهدمة منذ سنوات، أو ينتظر في مقاه منذ زمن طويل مجاورة جدرانها ومرمرها مقابل جدران تكسوها المرايا والفورميكا أنا أتفهم حنينه بكل تأكيد، بيد أني لا أشاركه فيه.
النص مبعثر لا ترابط في الشخصيات أو الأحداث، وكل شيء يتحرك بدون ضوابط، يقول النص عن أدب الرفض وأظنه يقصد الأدب الحديث: «في أدب الرفض، ثمة آمال لم تكتب، بيد أننا نجهل عنها كل شيء، العنوان، والموضوع، والطول والأسلوب. وإنه ليقال لنا إن هذا الشخص، وهذا الكاتب مؤلف معروف، ولكنه مؤلف ماذا؟ هو نفسه ينكر أبوته، من غير أن ينسبه لنفسه، وذلك كما سلفه الشهير، دور الحمى».
القارئ يقع في حيرة، وتأخذه القراءة لعدة زوايا أو اتجاهات لمعرفة ما يدور في كواليس النص، هذا التوهان يدخل المرء في دائرة الشك بنفسه وبالنص المرسوم أمامه، سؤاله يقول له:
إلى أين أنا راحل في هذا الرحيل المجهول؟
الشخصية الرئيسية في الرواية هو بيفيلاكا: «فهو منخور من الرعب، ومخوف، ونازف، أجل، ومتورم بالشكوك والحذر، هذا، أجل. كان الخوف محزنًا في السنوات الأخيرة في الأرجنتين». هذا الوصف للأرجنتين موطن الروائي ألبيرتو مانغويل، دقيق للغاية على لسانه المطابق للسان بيفيلاكا، الضائع، بيد أنه «لم يختف تمامًا حين وصل إلى إسبانيا، الموطن الثاني له، وأنه مقتنع بأنه لا يندم على منفاه في مدريد، على العكس من ذلك، كانت تعميه الفكرة التي صنعها لنفسه عن إسبانيا». كانت هذه الأرجنتين، كما يرى بيفيلاكا، ألبيرتو مانغويل أن زوجته غراسييلا كانت تقول له: ولكنني لا أحب سواك. وكان بيفيلاكا يصدقها، على الرغم من أنه يعيد «بناء مغامراتها المحتملة بالتفاصيل الأكثر دقة. ويكون عاشقها في بعض الأحيان مكرشًا ومشوربًا، وفي أحيان أخرى، يكون يافعًا ابتدأ لتوه بحلاقة ذقنه، وعشاقها من مدن وبلدان كثيرة».
كما قلنا في النص أعلاه تتداخل الأسماء مع الأحداث، تيراديلوس الذي يكلم بيفيلاكا، كأنه يبثه كل العــذابات والأفراح والغراميات، التي مرّ بها ألبيرتو مانغويل، السجن، الزنزانة في الأرجنتين أيام الديكتاتورية، العيش تحت ظل العسكر والمظاهرات، وتتحرك الرواية بين إسبانيا أيام فرانكو والأرجنتين المأسورة»، لقد كانوا وهم في بطون أمهاتهم، وأنهم سيكونون كذلك بعد نفسهم الأخير، أي عندما يكونون غبارًا مستعادًا، وعناصر بناء في مناخنا، على نحو ما. وكنا يا صديقي يومًا بعد يوم نستنشق الرماد العسكري المطبب للأرجل، وللمشائين، ولما لا، فقد كنّا نستنشق رماد النشر لكاميلو أوركييتا، الذي ذهب سريعًا لكي يقيم في مدريد في البداية، تحت حكم فرانكو.
الكتابة هي علاقة حميمية من نوع خاص بين الكاتب والقارئ أو المتلقي، وواجب على الكاتب أن لا يشعر قارئه بالغربة أو الضياع، أن يبقى متلاصقًا مع الكلمات والأسطر حتى يصل إلى الهدف. لهذا نقول إن الرواية الحديثة تهمش القارئ، تكسر معنوياته وتجعله في حالة ضياع ونفور، لأنها تغيبه لمصلحة القراءة النخبوية.
على الرواية الحديثة أن تنزل إلى مستوى القارئ، أدب الرواية تحديدًا يجب أن يكون الأقرب إلى قلوب الناس وعقولهم، وإذا استمرت في عليائها ستجف مع الأيام.
الرواية متوسطة الحجم، لا يتجاوز عدد صفحاتها أكثر من 216 صفحة من القطع الكبير
٭ كاتب سوري