في نهاية المطاف، قد يعدّ بديهيا في شهر كانون الثاني/يناير، أن أركّز في منبر من منابر مدارات صحيفة ‘القدس العربي’، التي تشرفني باحتضان كلامي اسبوعيا، كلاما مرتبطا، من قريب أو من بعيد، بأجواء العام الجديد. العام الجديد منطلق جديد، هذا أيضا من البديهيات، لكن ليس بالضرورة من البديهيات أن يفتح هذا المنطلق الجديد بابا لتوصيات لا نكتفي بصياغتها، بل نمضي بصياغتها قدما نحو التحقيق.
.. قلنا في العنوان.. تهنئة علّها ليست معهودة ولا حيثياتها قابلة لتأويل مباشر شفاف، فلنشرح إذن ما الذي يحدونا إلى التفاؤل بالخير للغة العربية.
دعونا نذكّر، أولا، أنّنا نقصد بعبارة اللغة العربية، اللغة العربية الفصحى، وليس المقال هنا ولا المقام ملائمين لنقع في جدل اعتبار اللهجات لغات مختلفة تتفرع عن جذع واحد، أو بالمقابل، كما كان يقول عالم اللسانيات المستشرق فيرغسون في السيتينيات، اعتبار اللهجات منوعات من العربية. لسنا هنا بصدد الخوض في جدل جامعي بيزنطي، فقصدنا في هذه الأعمدة صحافي محض خلاصته أن اللغة العربية الفصحى لغة بحاجة مستمرة إلى أن يزداد تمكّنها ويتطوّر وينمو لدى متكلّميها، لأن خلافا لكلام شائع أخذ يزيد من سخطي بمرور الأيام، ليست اللغة العربية الفصحى لغة أم أحد. قد يقول قائل إنها باتت في حكم اللغة الأم زمن غلبة لغة قريش على غيرها من لغات القبائل والشعوب المتوطنة في الجزيرة العربية، ولكن كلمة لغة بهذا المعنى كانت هي أيضا في النهاية تفيد معنى الفرع المشتق من جذع واحد، فلم تكن اللغة الغالبة في الواقع سوى تداول عملي من أصل لغوي نسيه الكثيرون، وهو اللسان العربي المبين. فما بال من يدعي في سنة 2014 أن اللغة العربية الفصحى لغة أم شخص ما؟ لعمري إن ذلك يكون إما مخطئا وإما مشوها للحقائق لأغراض دعائية، كترويج الكسل الفكري مثلا، مما يؤدي إلى نشر موقف ايديولوجي خطير مفاده أنّنا كلنا في العربية سواء.
كلاّ! لسنا كلّنا في اللغة العربية سواء! ومن واجب الصحافي الذي لا يستطيع أن تصل رسالته إلى الوطن العربي ـ حسب عبارة أثيرة إلى نفسي أثبتت التجربة أنها بقيت حبرا على ورق ـ من دون الرجوع إلى هذا المستوى اللغوي موضع هذا المقال: اللغة العربية الفصحى.
! نقولها لأننا سئمنا من مواقف كثيرة من حياتنا العامة يميل فيها التعاطي للغة الضاد الأبيّة الشهمة نحو استباحة وتسيّب يشجعهما قانون الجهد الأدنى الذي يتوخى وضع التداول اليومي باللهجات المحلية ـ إن لم نقل الفرنسية هنا في هذا البلد ـ في مستوى الدقة الفكرية والإبانة اللغوية اللتين منبعهما لغة تكتسب بالتعلم المتواصل والصبر على استغلاق أسرارها التي لا يتأتى النفوذ إلى قعرها إلا على الراسخين في العلم.
ولترويج الكسل الفكري هذا بعد لا يستهان بآثاره، فمتى دفعنا إلى أقصاها نتيجة اعتبار اللغة العربية لغة أم أصحابها، يصبح صنفها وصنف لهجاتها صنفا واحدا: صنف مقدرة لغوية تلقّيناها بالفطرة.
كفى قلبا للحقائق واستهتارا بها .
أترانا فكرنا جليا في تبعات مثل هذا التماهي؟ دعونا نذكر بعضا منها :
ـ إن اللغة العربية الفصحى أولا ناقلة ثقافة وتراث، فمن ذا الذي يستطيع أن يدعي أن لغة ابن المقفع ولغة الجاحظ بل لغة توفيق الحكيم ولغة نجيب محفوظ لغة أم أحد؟
ـ إن اللغة العربية الفصحى ثانيا لغة مكتسبة يتواصل تمرّسنا بها على مر الأيام والسنين: أما كان يقول أحد قدامى الكتاب اللاتين: لا يمرنّ عليك يوم من دون كتابة ولو خط واحد، وهو يقصد بهذا الكلام، لا يمرن عليك يوم من دون أن تضع أسلوبك على محك التمرين والممارسة المستمرة.
ـ يؤدي اعتبار المستويات اللغوية العربية بأنواعها لغات أم متكلميها، إلى تفجّر الحدود بين الثقافة العالمية والثقافة الشعبية، بعبارة أخرى، إلى طمس الفواصل بين مستويين، مستوى الثقافة الكتابية ومستوى الثقافة الشفاهية، وإذا تناولنا الموضوع بمقياس التاريخ فيرجع الأمر إلى الزج بهذه الازدواجية المؤسسة للثقافة العربية في مستنقع من الضبابية خليق بالقضاء على خصوصية تحظى بها قلة قليلة من لغات العالم.
نعم، العربية فصحى ولهجات، ازدواجيتها هويتها. اللغة الفصحى ناقلة ثقافة واللهجات أيضا ناقلة ثقافة، والثقافة العالمية والثقافة الشعبية منبعان للمعرفة، لكنهما منبعان مختلفان، فمن رواية تنتهل قصة ولغة، من مثل شعبي تنتهل قصة أيضا في مناسبات كثيرة، ولعلك تنتهل عبرة تعتبر بها ولعلك تنتهلها من الرواية أيضا ـ ولكن من المثل الشعبي لا تنتهل لغة ـ اللهم إن كنت من غير أهل البلد.
أما من تحليلنا هذا الذي حاولنا به الوقوف عند خصوصية أنّ العربية إنما هي فصحى ولهجات معا، أي لغة أم وغير لغة أم في وقت واحد، فعسانا به أوصلنا قارئنا إلى درب الذكرى التي تنفع المؤمنين بأنّ لكل مقام مقال.
‘ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
اللغة العربية تنعى حظها – لحافظ إبراهيم
رَجَعتُ لِنَفسي فَاتَّهَمتُ حَصاتي
وَنادَيتُ قَومي فَاحتَسَبتُ حَياتي
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني
عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي
رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدْتُ بَناتي
وَسِعْتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً
وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ
وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني
وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني
أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحِينَ وَفاتي
أَرى لِرِجالِ الغَرْبِ عِزّاً وَمَنعَةً
وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ
شكرا على المقال الجيد الذي ينافح عن قاسمنا المشترك الاعظم !
كل شيء يتغير مع مرورالزمن , والشعوب الحية هي التي تكتشف مواطن الضعف او ان شئت التلف فتقوم بعملية الاصلاح والتجديد لبيت او شارع او للغة!
كل لغات العالم تتطور وتتحسن وتتبسط لتتجاوب مع متطلبان الناطقين بها . الا نحن فاننا نتشرذم ونتهالك ونمرض ونموت بدون عناية او محاولة للتطبب , واقصد بذلك في مجال قاسمنا المشترك الاعظم.
هناك تلفيق لبعض المحظورات تخرج من افواه جهلاء حول تعارض الاصلاح اللغوي مع الموروث الديني ,لكنهم في يوم من الايام نقطوا اللغة وجملوها حيث نمن بالشكر لمثل ابو الاسود الدؤلي وسيبوية وغيرهم .
اللغة العربية تحتاج الى تجديد واوله اضافة التشكيل الى الاحرف ليصبح كتابته الزاما وليس اختيارا
واعتقد انها خطوة بسيطة ستاتي بثمار وافرة
فهل نجرؤ على فعل ذلك !