في كتابه «بدأت من ثورة ظفار ولم تنته عند (الأسلوب المباشر) في صداقة إدوارد سعيد»() تحدث الأكاديمي والمترجم فواز طرابلسي عن زيارة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935- أيلول/سبتمبر 2003) بوابة فاطمة عند أقصى الحدود مع الكيان الصهيوني صيف سنة 2000، ورميه حجارة ضد الأراضي المحتلة.
جاءنا إدوارد إلى بيروت، كان مدعواً إلى ندوة تكريمية في الجامعة الأمريكية، وأطلعني على عدد من الصفحات، اختارها من مسيرته الذاتية ليلقيها في المناسبة، وقد ترجمها له أحد الأصدقاء، أجريت بعض التعديلات على الترجمة، سألني هل أنت مستعد لترجمة السيرة الذاتية عندما تصدر؟ أبديت الاستعداد لذلك، واشترطت: «لغتك عويصة وصعبة، سوف أفككها وأعيد تركيبها باللغة العربية» وأردفت: «أريد أن أجعلك تتكلم العربية».
قال: أنا موافق. وهكذا صار، تبادلنا الأحاديث والتعليقات عن بعض خصوم إدوارد، وهم حينها صادق جلال العظم، وكنعان مكية، وبسام الطيبي وآخرون.
بعد «خارج المكان» ترجمت له مجموعة محاضرات بعنوان (الأنسنية والنقد الديمقراطي) 2005 والآخر (عن الأسلوب المباشر. أدب وموسيقى عكس التيار) 2015، وهو مجموعة أبحاث عن شعراء وروائيين ومؤلفين موسيقيين زادهم العمر تمردا ومشاكسة.
في تموز/يوليو 2000 زار إدوارد الجنوب اللبناني ورمى حجارة، وذهب نحو بوابة فاطمة بناء على رغبته، رافقنا في الجولة فريق تلفزيوني من «قناة المنار» وكامل جابر مراسل جريدة «السفير» في النبطية. دعانا المسلحون إلى تناول الحجارة من كومة جانبية أمامهم لرمي الجندي المحصن على ما اعتاده زوار الحدود بعد التحرير. تحدت نجلا أباها أن يرمي حجرا، وأنظم أخوها وديع.
قلت لإدوارد: سأنظم إليك إن شئت أن تفعل» وهكذا حصل.
حين انتشرت الصورة وتصاعدت الحملة ضده، حتى بلغ الضغط على إدارة جامعة كولومبيا لطرده من السلك التعليمي. لما سمعت بالحملة اتصلت بإدوارد متضامناً فبادرني: كان يمكنني أن أخدمك أنت ورفاقك اليساريين بطريقة أخرى غير تلك الطريقة». وبدا كأنه يحملني المسؤولية عن توريطه مع أن زيارته الجنوب إنما حصلت بناء على طلبه».
أولاً، أعتذر عن طول هذا النص المقبوس، فالسياق العام الجأني إلى هذا إلجاء، والواقعة التي كان بطلها إدوارد تستأهل أن تعاد، لتستذكرها الأجيال الجديدة.
وثانياً، صدرت السيرة الذاتية لإدوارد «خارج المكان» بطبعتها الأولى عن دار الآداب سنة 2000، وقد ترجمها فواز الطرابلسي، وكانت رائعة ومستساغة، وكان هذا إيفاء بالوعد، أن يجعل لغته عربية ومفهومة.
وثالثاً، وهو الأمر المهم الذي سأوقف حديثي عنه، فهو رأي الطرابلسي بلغة إدوارد، إذ وصفها بالعويصة والصعبة.
لقد لمست هذه الصعوبة في أكثر من كتاب قرأته لإدوارد، ومنها كتابه المعروف»الإستشراق.. المعرفة.. السلطة.. الإنشاء) الذي ترجمه كمال أبو ديب، فضلاً عن (محاضرات ريث) التي ألقاها إدوارد، وقرأتها بترجمة أكثر من مترجم، ومنها ترجمة غسان غصن، ومراجعة منى أنيس ونشرتها دار النهار في بيروت سنة 1996، فضلاً عن ترجمة أخرى تولاها محمد عناني، أصدرتها دار رؤية في بيروت سنة 2006. ترى هل هذه اللغة الصعبة العويصة، ناتجة عن اكتناز عقل إدوارد بالأفكار والآراء، فأمسى كالطائر المحلق عالياً، لا يكاد يتيسر فهمه إلا لمن أوتي حظاً عظيماً من الفهم وسبر الغور؟ هذه الصعوبة والتحليق في أجواز المعارف وأجوائها، أرّقَت حتى كمال أبو ديب وهو يترجم «الإستشراق» قائلاً: سيكون تبسيطا للأمور أن أصف كتاب إدوارد سعيد بأنه صعب: للقراءة والترجمة. ففي مواجهة فكر عميق، مسفسط حد الإدهاش، غائر في مصادر المعرفة الإنسانية حتى ليبدو الأكثر غرابة في المعرفة مألوفاً ألفة العام الشائع، قادر على التعامل مع اللغة بحيث يصبح شاردها طبيعياً لديه، وبعيدها قريبا منه، لا تتحدد استجابة المرء في إطار السهولة والصعوبة، بل في إطار آخر مختلف، وعلى مستوى مغاير: مستوى القدرة المدهشة على استخدام أكثر مستويات التحليل صعوبة، وأكثر التصورات غموضاً في مناقشة ما يبدو موضوعا عادياً، ثم القدرة المماثلة على الوصول إلى رصد دقيق لأبعاد الظاهرة المعاينة يضيئها إضاءة فذة».
وإذ وجدت صعوبة في فهم المراد لدى قراءتي لكتاب «الاستشراق» مرتين، فضلاً عن عودات عديدة لبعض الفصول، فإني لمست متعة غامرة، وأنا أقرأ «خارج المكان» بترجمة الطرابلسي، ترى هل هذا يعود للموضوع المترجَم؟ أم يعود لأسلوب المترجِم وفلسفته في الترجمة؟
كثيرا ما أسأل صديقا اقتنى كتاباً عن اسم مترجمه؟ فيأتي الجواب – غالباً- لم انتبه لاسمه، أو يذكر لي مترجما أو مترجمة متواضعة الإمكانات، متواضعها، فيكون السؤال كيف لا تهتم بالوسيط بينك وبين المؤلف، الذي لا تعرف لغته؟ وكيف تقبل بقراءة وسيط قليل الإمكانات أو تثق بنقوله؟ والأمر سيكون أكثر صعوبة حين يكون النقل- مرة أخرى – من لغة وسيطة، وليست لغة الأصل، لكن مترجماً حاذقاً هو سامي الدروبي (تـ 1976) نقل إلينا روايات دوستويفسكي، فضلاً عن بعض روايات تولستوي، قبل أن يتخطفه طائر الموت، لا من الروسية مباشرة، بل عن طريق الفرنسية؛ لغة وسيطة، وهنا تتجلى الإمكانات والفروقات الفردية للناس. كما أرى أن كمال أبو ديب، اجترح مصطلحات وتعابير، وهو يترجم «الاستشراق» بعضها – وأنا بذلك زعيم- كان موفقا فيها، وبعضها جانبه فيها التوفيق، ناعيا على العربية – على الرغم من عنايته بها وتقديرها – وضعها الحالي في زمن تلاطم المعارف والمهارات، فالصعوبة لا تكمن في كتاب «الاستشراق» بل تكمن كذلك في وضع اللغة العربية، من حيث هي لغة تعبير عن مشكلات الفكر المعاصر والحضارة المعاصرة، الأمر الذي دفعه إلى تدوين ثبت؛ كشاف بالمصطلحات التي اجترحها أبو ديب واقترحها، مقارنا إياها بالمصطلح أو التعبير الشائع، وهذا الأمر يذكرني بما قام به الباحث والناقد المغربي أحمد المديني، لدى ترجمته لكتاب «في أصول الخطاب النقدي» وقد ترجم فيه دراسات نقدية لتزفتان تودوروف، ورولان بارت، وأمبرتو أيكو، ومارك أنجينو، طبع الكتاب ببغداد سنة 1987.
كما عمل أبو ديب على نحت مصطلحات وكلمات، ظانا أنها تخفف على القارئ أو الكاتب والمترجم، مثل: مصطلح (الاجتمادية) أو (الاجتصادية) ويقصد (الاجتماعية – الاقتصادية) أو السيا- تاريخية، ويعني، السياسية التاريخية، وتحترضية، أي تحت الأرض، والجغراسي، بديلاً عن، الجغرافي – السياسي، والفو- سياسية في موازاة، الفوق سياسية، كما استخدم حصرياً بدل حصراً، وفي مواضع عدة كتب (كلا) عوضا عن (كلتا) . كما إنه يجترح -مثلا- صيغة (الـ1830) بإضافة (ألـ) معادلاً للصيغة الإنكليزيةthe1830s ، لأنها صيغة موجزة عن القول: في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، أو ما يشابه ذلك من تراكيب.
كما إن مراجعة لما أورده في الكشاف المصطلحي، الذي قرر فيه ألفاظاً يريد إدخالها في الاستخدام اللغوي، قد يوقع- بعضها، وأؤكد هذا التبعيض- الكاتب أو المترجم في اللبس والتوهم، لأنه يقترح مصطلحات بدل أخرى شائعة ومستساغة ومقبولة مثل:
1- آلوي، والآلي، شائع وسائغ ومقبول.
2- استحرام، بدل علاقة محرمة.
3-الأقاليمية. وأرى أن مصطلح الإقليمية قد يكفينا.
4- التأريخانية – والتأريخية لفظة أخذت مسارها في لغتنا.
5- الأنوية، ولدينا بدلها وأفضل منها، الأنانية.
6- التكوكبية، ويقصد بها أبو ديب علاقة التبعية، وقد ذاع مصطلح التبعية، الإتباعية، الإتباع، تبعا. ولا أريد أن أطيل ومن أراد الاستزادة فليراجع كتاب «الاستشراق».
أرى ذلك نوعا من العبث اللغوي، فنحن لا نريد للغتنا أن تضحى جسدا محنطا نتعبده، بل نريدها حية تواكب تطور الحياة العملية والعلمية، من خلال النحت والاشتقاق والقياس، لكن يجب أن يحصل ذلك من خلال المؤسسات العلمية، والمجامع اللغوية، ومركز تنسيق التعريب في الرباط، وأن لا نتركه لكل من يريد أو يشاء، فستضيع لغتنا في تصارع الآراء والأضداد.
كمال أبو ديب يدعو إلى تطور لغوي، ثورة لغوية، تفجير للبعد اللغوي، لعملية التغير والتطور الثقافية – الحضارية، ولن يحصل هذا التفجير- كما يرى – إلا بالمغامرة الرائدة، بالجرأة لا على نقل الفكر من العالم فقط، بل اللغة أيضاً، جرأة تهدف إلى إنجاز جوهري، هو توسيع اللغة، وتوسيع اللغة ليس شرطا يخيف.
التطور مطلوب ومرغوب فيه، فمنذ نحو ألف سنة دعا إليه ابن مضاء اللخمي القرطبي، لكن التفجير والمغامرة، أمران قد لا نستطيع تقدير عقباهما، وضبط نتائجهما، مع تأكيد أن لا يكون هذا التفجير، وهذه المغامرة منهجا فرديا، بل إيكال أمره إلى مجامع اللغة، مع أني أشير بمزيد الأسف إلى الكسل والتواكل الذي يعتري هذه المجامع.
كاتب عراقي
للأسف فإن ترجمة كمال أبو ديب لكتاب الإستشراق هي سيئة جداً جداً. إنه أساء للكتاب وكاتبه.