1
أهدى (لأمين صالح ولي) اثنين من أعماله في ثمانينيات القرن الماضي، حيث زار البحرين والتقيت به أول مرة، كانت هي آخر مرة أيضاً. ومرات الاتصال الأخرى النادرة كانت متباعدة لدرجة أننا كنّا نحتاج، وكان ذلك بالهاتف، بعض دقائق لاستعادة الذاكرة وصقلها ببعض الأحلام المشتركة.
المرة الأخيرة، عندما هاتفته من ألمانيا وكان وقتها يقيم في باريس ـ بعد أمريكا – حين شارك، في باريس، الشاعر أدونيس تحرير مجلة «الآخر»، التي لم يصدر منها سوى أربعة أعداد، ومن «حسن» الطالع أنني كنتُ معهم في عددها الأخير.
2
أثره الفني في البحرين، بالإضافة إلى معرضه الذي أقامه أثناء زيارته، يتمثل في الخط الجداري الكبير على جدار مبنى «بيت القرآن» الخارجي، ذلك العمل الذي كان قد طلبه صاحب مشروع البيت، عبداللطيف كانو، وهو يعرف تجربة كمال بلاطة الفنية، وتعرف أكثر عليها أثناء معرض الفنان في البحرين. وبالمناسبة، فإن كانو هو أحد مقتني الأعمال الفنية المعروفين في البحرين. كان ذلك الأثر الجداري عبارة عن جملة قرآنية بالخط المربع الذي كان «بلاطه» قد ابتدعه تلك الفترة. وإن كان الكثيرون ممن يشاهدون ذلك الخط، في الجانب الشمالي من بيت القرآن، المطل على الشارع المتصل بجسر المحرق. أقول عن الكثيرين الذين لا يعرفون حقاً صاحبه، ذلك العمل الفني المميز الجميل، بل أنني لم أصادف أي إشارة إعلامية لذلك العمل وصاحبه، لولا أنني عرفت ذلك من كمال بلاطة نفسه، معتبراً ذلك العمل هدية تليق بمشروع البيت الفني.
3
لكمال بلاطة، غربة مألوفة ككائن فلسطيني، فنان سافر من القدس إلى بيروت عام 1967، فوقعت الحرب لتحتل إسرائيل القدس، ولَم يتمكن من العودة بعد ذلك. وكل محاولاته للعودة لم تنجح، عاد في الثمانينيات بعض الوقت، وكانت تجربة مريرة، حتى إنه لم يتمكن من العودة إلى القدس بعد الموت بسهولة.
وفيما أكتب هذه الكلمات، ستكون جنازته في القدس، حسب الإعلان العائلي عن ذلك. وربما تمنى العديد من أصدقائه في العالم الحضور والذهاب إلى كنيسة صهيون في القدس لتقديم واجب العزاء شخصياً، لولا أن ذلك لن يكون متاحاً.
4
ليس في الأمر ما يوجع أكثر من أن الموت لن يعرف أن من ينال منه في شخص كمال بلاطه فنان من فلسطين. الفنان الفلسطيني لا يفنى عندما يموت. على كثرة الشهداء المبجلين الذين تقدمهم فلسطين يومياً منذ ما يزيد على ستين عاماً، يظل موت فنان من فلسطين دلالة رمزية تشير إلى أن الموت لا يكفي لكي يبدو الغياب نافذاً.
المبدعون في فلسطين يتركون لنا أثراً كونياً يشهد على ما ينتهي فينا ويبدأ في الفن.
عندما أهداني اللوحتين، همس لي (لا تعرضها، احتفظ بها فقط). لم أفهم ما يعني، قلت له: «هل بسبب حجم اللوحات؟». قال بسبب التاريخ. والحق أنني ما زلت لم أفهم قصده على وجه التحديد. وخوفي أن موته لا يفسّر لي إشارته تلك.
5
فقد هائل، موت كمال بلاطة. هذا فنان ظل طوال الوقت بعيداً عن الشارع السياسي للعمل الفلسطيني.
ليس ترفعاً عن السياسة، ولكن تفهماً عميقاً لحلمه الفني وطبيعة مهماته الإبداعية. لقد كان يصنع ما يحب، بدون اكتراث للشرط السياسي، الإعلامي على وجه التحديد.
لم أصادف فناناً فلسطينياً، وعربياً أيضاً، يتكلم أو يشير الى تجربة كمال بلاطة، لكأنه لم يكن موجوداً في برامج الآخرين.
وظني أن مكانه الأمريكي البعيد جعله بمنجاة من سياقــــات المشهد العـــربي بشروطـــه المربك. وبدون الانتقاص من غيره، كان الهامش حصناً قادراً على تحرير الكائن الفني في كمال بلاطة.
6
لكنه قال ذات مرة: «لا يمكنني أن أتحرّر، ولا يمكنني أن أعبّر عن نفسي من دون أن أرى هذا اللقاء، هذا التقاطع بين الشرق والغرب، بين الخط الأفقي والخط العمودي. من ناحية عملية، لا علاقة لي بالتراث البيزنطي – الإسلامي، ولكنني آخذ اللبّ الموجود فيه، مثل الطائر الذي يرى سمكة في البحر، فيهجم على البحر ويلتقط السمكة ويترك البحر كما هو. آخذ من هذا البحر ما يطعمني».
شفافية الهندسة التي رسم بها أجمل أعماله، تزيح الكثير من الضباب الذي يحجب الرؤية عن المشاهد. ثمة نص مكنوز في اللوحة، والغموض الذي يكتنف اللوحة، لا يكمن في الفعل الهندسي، ولا يصدر عن اختراق الألوان لبعضها، ولا العطش الغريب الذي يتماهى بالماء الغامر في اللوحة، إنه الحلم الجامح الذي يتقدم ببسالة من دون اكتراث بالدلالة. ظني أن كمال بلاطة كان يتوقع من المشاهد أن يرى ما يحب أن يراه.
٭ شاعر بحريني