الناصرة ـ «القدس العربي»: عشية الذكرى السنوية لرحيل محمود درويش الشاعر الفلسطيني الذي حلق بجمالية وفلسفة قصيدته للعالمية، رحل الرسام كمال بلاطة، وهو كما درويش أفلت من المحلية وطار نحو الإبداع بلغة إنسانية كونية على جناحي ريشته الخلاقة، بعيدا عن المباشرة والتشخيص. بلاطة فنان تشكيلي فلسطيني، ومؤرخ من أبناء القدس، رحل بعيدا جدا عنها في الأسبوع الماضي في برلين عن 77 عاما. وُلد كمال بلاطة لأم مقدسية، بربارة إبراهيم عطا لله ووالده يوسف عيسى بلاّطة، وهو الأصغر بين أشقّائه الخمسة: عيسى ورنيه وأندريه وجميل وسعاد وزوجته: ليلي فرهود. نشأ كمال وترعرع في الحي المسيحي في المدينة القديمة، الذي أصبح، بعد احتلال إسرائيل للقدس الغربية سنة 1948، تحت الحكم الأردني. وتلقّى بلاّطة تعليمه الابتدائي في مدرسة الإخوة (الفرير)، ثم تابع تعليمه الثانوي في مدرسة المطران (مدرسة سانت جورج) وتخرّج منها في 1960. في غياب مدرسة لتعليم الفنون في القدس، عمل الصبي الصغير بنفسه على صقل موهبته في الرسم. خلال العطلة الصيفية، كان والداه يرسلانه إلى رسام محترف، خليل الحلبي (1889- 1964) الذي اشتهر برسم الأيقونات، في الحي حيث يقيمون، وهناك تعلّم فن رسم الأيقونات، حيث رسم بورتريهات وحارات وعمران القدس في مرحلته الأولى. لكن شغفه الحقيقي في بدايات مسيرته كان رسم صور من واقع الحياة ومشاهد من الشارع في مسقط رأسه. ببلوغه منتصف سنّ المراهقة، سعى عشّاق الفنون من السلك الدبلوماسي في الأردن للحصول على لوحاته المائية التي كان يرسمها مباشرةً أمامهم. وبفضل مبيعات لوحاته في المعارض، التي أقامها في القدس وعمان، تمكّن من السفر إلى إيطاليا حيث أمضى أربع سنوات في دراسة الفنون، وتخرج في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، قبل أن يلتحق بمعهد متحف كوركوران للفنون في واشنطن التي وصلها عام 1968 وأقام فيها ثلاث سنوات. وفي سنة 1974 انتقل إلى بيروت، حيث عُيِّن لفترة قصيرة مديراً فنياً في «دار الفتى العربي»، إحدى مبادرات مركز التخطيط الفلسطيني في بيروت. وبما أنه كان المدير الفنّي الأول وعضو مؤسِّس في هيئة التحرير، وضع التصميم والقالب لكل المطبوعات التي صدرت عن الدار في الأعوام اللاحقة.
خلال سنتي 1993 و1994، أجرى بلاّطة بحوثاً ميدانية حول الفنون الإسلامية في المغرب وإسبانيا كزميل باحث رئيسي في برنامج فولبرايت الأمريكي. وفي سنة 2001، حاز منحة من مؤسسة فورد الأمريكية لإنجاز بحث ميداني حول الرسم في فلسطين بعد الحقبة البيزنطية.
لكن بيروت لم تتسع لبلاطة فتنقل كالفراشة بين الولايات المتحدة الأمريكية، المغرب وفرنسا. ومنذ انتخابه زميلاً في معهد الدراسات المتقدمة في برلين في 2012- 2013، انتقل مع زوجته إلى العاصمة الألمانية وتوفي فيها في 6 أغسطس/آب 2019. وترد أعماله الفنية في مجموعات خاصة وعامة، منها: المتحف البريطاني، قصر الحمراء في غرناطة، وفي المتحف الإسلامي في معهد العالم العربي في باريس، وفي مكتبة نيويورك العامة ومكتبة لوي نوتاري في موناكو، ومتحف زيمرلي للفنون في نيو برونسويك في نيوجيرسي، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة في عمان. ولف بلاطه بأعماله الفنية في العالم شرقا وغربه، فأقام عدة معارض شخصية في القدس، عمّان، أبو ظبي، المنامة، بغداد، الرباط، باريس، موسكو، أوسلو، طوكيو، لندن وأمستردام، كذلك في المتحف الوطني الأمريكي في واشنطن، وفي متحف كوبريونيون في نيويورك عام 1988، واشتهر برسم بعض أغلفة المجلاّت في بيروت.
خلال سنتي 1993 و1994، أجرى بلاّطة بحوثاً ميدانية حول الفنون الإسلامية في المغرب وإسبانيا كزميل باحث رئيسي في برنامج فولبرايت الأمريكي. وفي سنة 2001، حاز منحة من مؤسسة فورد الأمريكية لإنجاز بحث ميداني حول الرسم في فلسطين بعد الحقبة البيزنطية. وصدر له كتاب «استحضار المكان ـ دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر» عام 2000، في تونس اشتمل على 300 صورة لأعمال فنية لفنانين فلسطينيين، بترشيح من وزارة الثقافة الفلسطينية، ودعم من المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة التابعة للجامعة العربية. وقد تفرّغ ثلاث سنوات لإنجازه، وهو الكتاب الرابع عن الفن التشكيلي الفلسطيني، بعد كُتب (المناصرة 1975 ـ شمّوط 1989 ـ محظيّة 1997).
وممن كتب عن أعماله الناقد الأدبي المغربي عبد الكبير الخطيبي، في مقدمته لـ»كتالوج» معرض «سرّة الأرض» أقامه بلاّطة في دارة الفنون (عمّان، سنة 1998): «خلف شغفه بعلم الهندسة يكمن تقليد رسم الأيقونات، الذي طبع بداياته في التدريب الفني، وقد حافظ هذا التقليد على استمرارية بارزة بين الحقبة البيزنطية والحضارة العربية – الإسلامية. لكن بلاّطة لا يكتفي باستكشاف هذا التقليد المزدوج، بل ينقله إلى إطار جديد بصفته فناناً ومتملكاً علم الجمال». كما كتب خوسيه ميغيل بويرتا فيلتشيز، أستاذ إسباني في مادّة علم الجمال لدى العرب في جامعة غرناطة، في مقدمته لـ»كتالوج» معرض «بلقيس» الذي أقامه بلاّطة في غاليري ميم (دبي، سنة 2014): «أُنجِزت هذه الأعمال التي تحظى بالتقدير الدولي عبر اختيار مجموعة من الأمثال والأقوال المأثورة العربية المأخوذة من الكتب المقدسة والمصادر الصوفية… تمزج تركيبة النماذج الهندسية بين الشفهي والبصري في فن عربي خالص، حديث بطريقة ممتعة.