أشاهد فضائية جزائرية، خصصت برنامجاً عن رواية. وهو أمر لا يحصل إلا نادرا. فقد عزفت التلفزيونات عن التعاطي مع الكتب. والغريب أنها كرست برنامجها من أجل كتاب بالفرنسية. وسكنني الفضول قصد الإصغاء إلى ضيوف البرنامج، الذين لم يتحدثوا عن الكتاب، بل انحرفوا إلى حديث عن الكاتب.
وبدل أن تجري مناقشة أفكار الكاتب، انقلبت الأمور إلى محاكمة له، من يصغي إلى ذلك البرنامج، سوف يظن أن الكاتب المقصود هو السبب في انهيار سعر الدينار وفي شح الأمطار، وأنه المسؤول عن الهجرة غير الشرعية، أو ندرة مواد غذائية.
الكاتب اسمه كمال داود، والرواية التي يفترض أن يتحدثوا عنها عنوانها: «حور العين»، فمنذ أن توجت بجائزة غونكور، قبل ما يربو على أسبوعين، تحولت إلى قضية رأي عام. لا يكاد يمر يوم من دون أن نصادف تعليقات في السوشيال ميديا، تراوح بين الطعن في الكاتب أو الإشادة بالكتاب. لم يسبق أن انقسم الجزائريون في شأن كاتب، مثلما انقسموا في شأن كمال داود. لم يسبق أن حظيت الجزائر بكاتب بلغ العالمية من قبله، فقد ترجمت روايته السابقة «معارضة الغريب»، إلى حوالي 40 لغة. ويصرح داود بـ«أن المحاكمة التي أتعرض لها، هي محاكمة لفكرة العالمية»، فمن يبلغ الشهرة التي بلغها يتهم بموالاة الغرب. وقد حادت النقاشات بشأنه عن سكّتها، ويهمنا في هذا المقام أن نفهم ظاهرة كمال داود، من غير انحياز إلى جهة ضد أخرى. لماذا كل هذا اللغط بشأن كاتب جزائري، ولد في الجزائر وكبر فيها، تعلم فيها وعمل فيها؟
المرأة تستعيد حقها في الكلام
إذا عدنا إلى الرواية محل الجدل، التي تحمل عنوان «حور العين»، فهي تحكي عن فتاة اسمها فجر، فقدت حبالها الصوتية في الخامسة من عمرها، عقب نجاتها من مجزرة سنوات العشرية السوداء. وعندما بلغت السادسة والعشرين، فكرت في العودة إلى المكان الذي نجت فيه من الموت. وفي طريقها إلى مقصدها، سوف تصادف رجلاً نجا بدوره من العشرية السوداء، وتتشعب الحكاية بين الطرفين، من غير أن تتخلى البطلة عن مونولوغ كاشف في محادثة الجنين الذي يسكن بطنها، من دون أن تحسم أمرها، هل تنجب أم لا. تخشى أن تعرف ابنتها مصيراً مثل مصيرها، في بلاد تعاني فيها النساء الأمرين، كحال بلدان أخرى لم تبلغ فيها النساء مرتبة من الحرية. هذا هو موجز الرواية، وإلى غاية الآن، لا نرى فيها سبباً إزاء اللغط الذي ترتب عن نيلها جائزة غونكور. ولكن بما أن الرواية تستعيد حقبة العشرية السوداء، فهي تقع تحت طائلة قانون المصالحة الوطنية. وهو قانون جرى إقراره عام 2004، من أجل وقف الدم والموت، ويتضمن مادة تلوح بالسجن والغرامة المالية في وجه من يستعمل في كتاباته جراح المأساة الوطنية. لم يسبق أن سُجن كاتب في الجزائر بسبب رواية، لكن تلك المادة من القانون لا تزال قائمة، ما يجعل احتمالات العقوبة واردة.
كان يمكن أن نبرر سبب الهرج بشأن الكاتب إلى هذه المادة من القانون، لكن يبدو ألا أحد ذكرها في حفلة المحاكمات، «لكنهم يحاكمون المؤلف كذلك، نظراً إلى اللغة التي يكتب بها»، يضيف كمال داود. لاسيما في بلد مثل الجزائر، حيث إن الفرنسية ينظر إليها كبقايا الحقبة الكولونيالية، بما أنه يكتب بالفرنسية، فقد وجد خصومه حجة في إلباسه تهمة «الخيانة»، فهل يجب أن يغير لغته، كي يرضوا عنه؟
بين الجزائر وفرنسا
أواصل مشاهدة ذلك البرنامج، على التلفزيون، ثم أطل على التعليقات في السوشيال ميديا، ولفت انتباهي أن خصوم الكاتب يعيبون عليه موقفاً غير صارم في التضامن مع غزة. هذا الأمر جعلني أعود إلى مقالات كمال داود عن غزة ـ وهي قليلة بالمناسبة ـ كما إنها مقالات تتشابه في ما بينها في المضمون، بدءاً من مقاله الأشهر الذي صدر منذ عشر سنوات، بعنوان: «لهذا السبب، لست متضامناً مع غزة». من الوهلة الأولى، إذا اكتفينا بالعنوان، فسوف نظن أن الكاتب له انحياز، وبما أن الناس تعودت على قراءة الأشياء من عناوينها، فقد ساءهم العنوان، لكن عندما نطالع المضمون، سوف نكتشف أمراً مغايراً، حيث إن الكاتب يخبرنا أنه متعاطف مع الفلسطينيين في حقهم من أجل دولة آمنة، لكنه لا يود أن يتم الحجر على قضيتهم في مفاهيم عقائدية أو عرقية. ويواصل في تصريحه: «دعمت دائماً فلسطين وحقها في أرضها»، يقولها بصراحة، رداً عن المشككين فيه. بالتالي فإنه يتفق مع الرأي العام في أن فلسطين لها الحق في عيش حر، لكنه يود أن تواصل القضية مسارها في شقها الإنساني، من غير أن تتخندق في توجه ديني أو عرقي ضد آخر، «لأن ذلك سوف يحرمها من تعاطف بقية العالم معها». وهذا الأمر يتوافق مع رؤية حرب التحرير في الجزائر، التي ولدت كحرب من أجل استقلال بلد وليس من أجل الانحياز إلى عقيدة أو عرق، مما أكسبها تعاطفاً دولياً. هذا الدفاع عن فلسطين لم يره خصوم الكاتب.
كما أن اللغط، الذي يدور منذ أيام، يعيب على الكاتب «مواقفه غير السوية» تجاه بلده الجزائر، مثلما يشاع. وإذا عدنا إلى تصريحاته عقب الفوز بغونكور، نلاحظ أن الكاتب لا يكف عن تذكر قريته، ووالديه، يتحدث عن سنواته في وهران، وكذا أيام الدراسة والقراءة، والكتب التي قرأها في مسقط رأسه (بلدة اسمها ماسرة). «أنا ابن قرية. لا أنتمي إلى النخبة الثقافية في الجزائر العاصمة، التي تحتكر المشهد»، يضيف. ولأنه لم ينضم إلى تلك العصب، فهو يتحمل ما يشاع عنه من إدعاءات. «عندما أسأل واحداً من ناشطي السوشيال ميديا، أن ينشر مصدر الكلام الذي ينسب إليّ ـ زيفاً ـ فإنه يتلعثم ثم يعتذر». هكذا جرت الأمور، ينسبون إلى الكاتب كلاماً لم يقله. ويذكر أن هذا الكاتب كان عرضة لهجمة المتشددين، في الجزائر، عندما صدرت في حقه فتوى بهدر دمه، مع ذلك فهو لم يستغل الواقعة في الترويج لنفسه، وامتنع عن الخوض في أمرها في الإعلام، حفاظاً على سمعة بلده.
إن القضية التي تثير جدلاً، ويميل الكثيرون إلى إخفائها، هي أن كمال داود كسب الجائزة الأدبية الأرفع في فرنسا، في فترة تسود فيها علاقة خصام بين الجزائر وفرنسا، فقد سحبت الجزائر سفيرها من باريس، وبلغت الأمور بين الطرفين أسوأ حالاتها. وكمال داود سبق له أن توج بجائزة «محمد ديب» في الجزائر، نشر كتبه الأولى في الجزائر، لكنه عانى من التعتيم والتهميش. هل يدافع الكاتب عن حقه في الوصول إلى القارئ، أم يرضى بالبقاء حبيساً للظروف التي تحيط به؟ ويختتم كلامه عمن يتهمه بموالاة بفرنسا: «أحب الثقافة الفرنسية، لا تاريخ فرنسيا الكولونيالي»، مؤمناً بحقه في النظر إلى المستقبل، لا الارتكان إلى الماضي.
إن الجدل الحاصل بشأن كاتب، في الآونة الأخيرة، يعيدنا إلى سؤال لا يزال إشكالياً: هل نحاكم الكاتب عن عمله؟ أم عن مواقفه؟ وهل يمكن الفصل بين المؤلف والكتاب؟ وهي إشكالية تلازم الأدب، في كل مكان، منذ عقود طويلة. إذا عدنا إلى رواية «حور العين»، فلن نصادف اختلافاً بشأن قيمتها الأدبية، وإذا حاكمنا الكاتب في معزل عن النص، فإن الخصومات على السوشيال ميديا سوف تعمق من سوء الفهم، وسوف تخرج النقاش من سكّته، ويستوي المعنى واللا معنى.