كوابيس بيروت أيضاً وأيضاً!

حجم الخط
64

لا أتحدث عن كوابيس حربية كما من زمان.. بل عن الكوابيس اليومية المعيشية.. هذه الكوابيس التي تنخر في الأعصاب ببطء واستمرار ولا ملجأ آمناً يقيك منها.. في بيروت أنت لا تكتب الكوابيس، لأنها تكتب نفسها وتمليها عليك! وأكتب اليوم ما أملته عليَّ!

كابوس عن زمن الرعب

المغتربة تقبل دعوة صديقتها منذ أيام الدراسة لقضاء ليلة في بيتها في بلدة «جونية» القريبة من بيروت، وهي ذات الخليج البديع المشهور عالمياً بجماله، وقبلتْ الدعوة، فقد كانت تشارك صديقتها في الغرفة في القسم الداخلي للبنات (بستاني هول) في الجامعة الأمريكية، ولم تذبل صداقتهما على مر الأعوام. زحام السيارات بين بيروت وجونية مهرجان موسيقى من أبواق السيارات والشتائم المتناثرة بين السائقين. وبعد ساعة ونصف من الزحام في درب يفترض أن لا تستغرق أكثر من 25 دقيقة إذا كانت خاوية- وصلت. صارت الضيفة تتنفس بعمق بعد هربها من هواء بيروت الملوث ولو ليلة واحدة. في اليوم التالي عادت إلى بيروت في سيارة صديقتها مع السائق الذي كان يسعل بشدة.
في «اتوستراد الدورة» قبل الوصــــول إلى مدخـــل بيروت، توقف السير المزدحم عن الحركة وتحولت الشوارع إلى مرآب كبير لمئات السيارات التي صارت عاجزة عن متابعة الدرب. وبين تلك السيارات سيارة فيها امرأة يحاول زوجها نقلها إلى المستشفى، لإنجاب طفلها!

كابوس: مكان الولادة ؟ «اتوستراد الدورة»!

صارت المرأة تصرخ ألماً بعدما تعذر على زوجها أن يتحرك بالسيارة إلى المستشفى. اتصل (بالشرطة)، أرسلوا له أحدهم على دراجة نارية لتفسح السيارات الطريق لها. صارت سيارات أخرى تلحق به كما في غابة لا تعرف مخلوقاتها الرحمة. السيدة المسكينة ولدت في السيارة! وقد يكتبون في التذكرة اللبنانية لطفلها: مواليد «اتوستراد الدورة» بدلاً من مواليد بيروت!
ها هو شاب بارد الأعصاب مثل المغتربة التي نامت في بيت صديقتها في جونية ووجدت نفسها لساعات في فخ زحام السير. ها هو الشاب يضع نارجيلته فوق سطح سيارته ويدخن..! ها هم شبان ضاحكون يقومون بحلاقة شعر أحدهم في الشارع وسط الزحام. ها هي شابة تشتم بيروت بكلمات بذيئة أمام كاميرا أحد تلفزيونات لبنان. أسلوب مواجهة الناس لفخ زحام السير طوال ساعات يعري حقيقتهم الداخلية، وقل لي ماذا تفعل في زحام كهذا أقل لك من أنت!
عادت المغتربة من ضيافة صديقتها وقررت أن ترى النصف الممتلئ من الكأس، وهو أنها التقت صديقتها وتنفست هواء نظيفاً، ولكنها قرأت في جريدتها قبل أن تنام أن هواء جونية بالغ التلوث!! بل إن جونية تحتل المرتبة الخامسة عربياً من حيث التلوث، والـ 23 عالمياً! والتلوث هو من ثاني أوكسيد النيتروجين «المسرطن».

كابوس: نزهتها المفضلة «والرملة البيضاء»

قررت المغتربة أن تقوم بتدليل نفسها بممارسة نزهتها المفضلة على الرصيف لصق البحر في «الرملة البيضاء». ولما حان وقت ذهابها كانت صنابير السماء مفتوحة بمطر بالغ العنف. اختارت البقاء في وكرها وهي تتأمل البحر من نافذة بيتها بحسرة. لم يخطر ببالها أن شاطئ «الرملة البيضاء» تحول إلى نهر من القاذورات والمياه الآسنة بعدما انفجرت أنابيب المجارير وصارت قذارة المدينة تنبع من أرض الشارع في «الرملة السوداء»! وتعذر حتى المرور بالسيارات منها، ولعلهُ كان لا بد من الزوارق أو (الجندول!) كما في مدينة فينيسيا، وشر البلية ما يُضحك.
ماذا حدث؟ من الذي سد المجارير بالإسمنت فانفجرت وأخرجت نهراً من القذارة؟ أحدهم من كبار «المسؤولين» فعل ذلك بعدما قبض الثمن من أصحاب منتجع يرغبون في أن يظل ماء البحر عندهم أقل قذارة..! وهنا تتطاير التهم بين «أهل الشأن»، ويتم تبادلها ويقررون فتح التحقيق في ذلك.. ومن البطل الذي سيفعل ذلك دونما خوف من ترهيب هذا أو ذاك.. وكعادة بيروت، «ملكة النسيان» ستأتي كوارث أخرى يتلهى الناس بها.

كابوس الظلام… و«مهرجان الصراصير»

…ولما يأت بعد (البطل) الذي يحرر بيروت من الظلام؛ فبعدما كانت الكهرباء تنقطع ثلاث ساعات في اليوم ظهراً صارت ترحل عدة مرات في اليوم.. الأمر الذي يخرب الأدوات الكهربائية كلها ويُسعد الصراصير التي تعشق الظلام، ويُكرم حارمي بيروت من الضوء. المغتربة التي جاءت لزيارة عاداتها الحربية بعد إقامة خارج لبنان نسيت أن تحتاط لذلك، ولم يكن أمامها غير معاشرة الظلام ريثما يطلع الفجر بضوئه.
وهنا لاحظت أمراً يشبه إعلاناً على الجدار فوق (الشوفاج) للتدفئة.. كانت المغتربة من زمان تضع الشموع فوقه فاتسخ الجدار بهبابها شهراً بعد آخر. وحين توقفت الحرب أعادت دهن بيتها بالأبيض بما في ذلك هذا الجدار. لكنها فوجئت بأن آثار الشموع عادت إلى الظهور على الجدار كأنها رسالة من مملكة الظلام أو لافتة إعلانية تقول: لا نجاة لك من العتمة.

كابوس: الرصيف الآخر!

ذهبت المغتربة للمشي في «شارع الحمراء»، وكان من زمان شارع المقاهي (الثقافية) والدكاكين الأنيقة، والجميلات العابرات كسحابة عطر، والأدباء الذين يكتبون الشعر داخل رؤوسهم وهم يمشون.
وجدت أن شارع الحمراء صار شارعاً آخر.. تذكرت قصيدة الشاعر بيتس، وفيها يقول: كل شيء يتغير/ويتساقط الواحد منا بعد الآخر… كانت تردد ذلك بصمت. شاهدت على الرصيف الآخر الأصدقاء الأدباء الذين ماتوا قتلاً في الحرب أو قتلهم الزمن من بعد. شاهدتهم شباناً صغاراً كما كانوا يوم تعارفت عليهم. استعادوا وجوههم الشابة وانتصبت قاماتهم بزهو الصبا. فكرت بالذهاب إلى الرصيف الآخر ولقائهم بكل الشوق والمحبة الأخوية، لكن صوتاً صرخ بها (لعله قادم من أعماقها): لا تذهبي إلى الرصيف الآخر. حذار من الذهاب إليه، فلم يحن بعد وقت قطع الطريق! قررت أن تتلهى عن أصدقاء الرصيف الآخر بقراءة لافتات الدكاكين، فقرأت أكثر من لافتة أعادتها إلى زمانها ومأساة بيروت وواقعها، وتقول: «كل شيء بسعر خمسين في المئة» أي بنصف السعر.. ها هو الوجه الآخر للمأساة، لكنه واقعي، ويعني ببساطة نصف لقمة الأسرة. أما الذين يدعونهم بالمسؤولين، فمعظمهم مشغول بجمع المال! الشعب؟ هذه كلمة لا يحبها معظمهم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    الله يسعد صباحكم بكل خير وبالفل والورد الياسمين لك أختي غادة السمان وللجميع. وجميل هذا الصباح بوجود أختنا غادة الشاويش معنا, والله اشتقنا كثير!, لقد أكملت واتممت المقال. يصعب عليّ أن أرى أن بلد وعاصمة الثقافة وحرية الفكر والصحافة والأدب العربية وصل حالها إلى هذا الحد المهين. إنه تعبر عن كل البلدان العربية بلا شك, لماذا نقتل أنفسنا ونقتل روحنا ونجعل حياتنا جحيماً, ماذا حل بنا وماذا ينقصنا وماذا يجب أن نفعل لنواجه هذا الكابوس الذي يخيم فوق رؤوسنا. مع خالص محبتي وتحياتي للجميع.

    1. يقول غادة .الشاويش_بيروت سابقا:

      مساء الخير لك اخي اسامة من عمان وانا اشتقت لكم …وافتقدكم كوني شغلت وايضا هناك محددات ..نفسي مرة عيش من دون ان تعشق متابعتي الاجهزة الامنية ءاااخ يا اسامة اكتشفت انني (انا بتنفس حرية ..ما تئطع عني الهوا) وكمان مكسور البي عنجد لانو مفتقدة منى والايميل يلي كتبتو ما بيشتغل ..الله يعاقبني ويضعني مكانها عندما كنت اغيب ..كنت اغيب لان ظروفي هي ظروف قطة متشردة وملاحقة تنزوي خلف الكراتين المعلقة لكي تهرب من البرد والمطر ..انا كلما تبعت ظل منى وظننتني وصلت الىى عتبة الباب نفترق اينها تلك الجزائرية الاسرة قولو لها صديقتك المتشردة الكشاغبة والمتمردة تفتقدك اينها اي احد يعرف اينها وغاندي ليخبرني ارجوكم
      المحبة غادة

  2. يقول المغربي-المغرب.:

    كان هناك صديق لبناني اسمه مثل الاسم الذي استعمله في التعليق…وهو اكاديمي يحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية واختار مجال الأعمال والاستقرار بين المغرب ونيويورك. …يقول بأن بيروت فضحت العرب في كل شيء…في الحرية المغيبة عندهم. ..في الفكر المصادر لديهم…في النضال المزيف عند أغلبهم. ..في الإقبال على الحضارة ومباهج الحياة التي لايستشعرها الكثيرون منهم. …ولذلك اختاروا اغتيالها بمساعدة من حليف القهر والتخلف العربي…الكيان الصهيوني. ..وما أعجب منه حقيقة هو نوع السياسيين الذين تسلطوا على هذا البلد العريق. …يمارسون عبثهم من فوق سفينة مهددة بالغرق. …ولايبالون إلا بصراعاتهم. ..ومصالحهم ومصلح المقربين منهم ……

  3. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    مرحبا لطيفة حليم
    بلطيفة بنت الحليم أرحب
    والحلم للتقوى أصح وأقرب

  4. يقول الشربيني المهندس / مصر:

    وكابوس الذكريات وقصتي من قصص من يمسك بالفأر ..؟
    ..شاركته بعض محطات قطار الزمن . ربما خذلتنا الألوان والخطوط لكننا اختلفنا .. وتصالحنا علي ضوء الشموع وهو يبتسم . قلناها معا :أظن براءة .
    هذه المرة حالت بيني وبينه علامة تعجب .. هو يجلس كل صباح بجـوار النافـذة ..
    .. هل عاد الفأر يلعب في عبه كما يقولون .. يترك شعرات من رأسه تشاغب الهواء ..
    .. يتأمل العصفور الواقف هناك فوق الأسلاك ..
    .. يقــرأ ما كتب .. يحـذف سطرا
    القط يقفز لأعلي الشجرة هربا من الكلب .. تهتز الأسلاك فيمحو الآخر.
    .. عندما سألته حفـيدته ذات مرة عمـا كتب .. زاغت عيناه بين سطـور الورقـة البيضاء ..!! بينما حفيدته تراقب العصفور ..

  5. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    وإلى المهندس من بني الشربيني
    يارقة العصفور في التلحين!!!

  6. يقول الكروي داود:

    إستأجرت أنا وعائلتي شقة مفروشة ببيروت بالمتن الأعلى, كنت أحب المشي بين الباعة اللبنانيين الذين يفترشون طريق السيارات بعرباتهم المحملة بالخضار والفواكه! أما الباعة السوريين فوجدتهم داخل الدكاكين لأنه لا إقامة لهم!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  7. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحيية للسيدة غادة وللجميع
    الحقيقة لا اعرف لماذا نحن بالذات مدننا في ماضيها احلى واجمل واروع من حاضرها لا اود الحديث هنا عن بيروت فقد اكرمها الشعراء والادباء كما بغداد في كتاباتهم ولكني ساتحدث عن البصرة التي كانت يسمونها ثغر العراق الباسم الذي منعت عنه الابتسامة بصرة الفراهيدي والسياب والحاضر الغائب محمد خضير التي كانت قبلة الخليجيين ايام عزها والان اصبحت منكوبة بكل شيء لاماء صالح للشرب ولا هواء نقي للعيش ,من يتذكر بصرة السبعينات وما قبلها وببصرة الثمانينات والى الان سيلعن كل مسؤولييها المحليين والمركزيين ولكنها ستنهض لانها البصرة وسينهض العراق بها انشاء الله حففظ الله مدنكم واهلها ولتعد بيروت كما كانت قبلة الاحرار

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      هذا هو حال كثير من المدن العربية للأسف يا أخي سلام عادل. وانشاء الله سينهض العراق ولبنان وسوريا واليمن وكل البلدان العربية. ولكن متى, اتذكر كلمات شاعرنا القديم امرئ القيس:
      وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
      عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
      فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه
      وأردف أعجازًا وناء بكلكل
      ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي
      بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ
      فيا لك من ليل كأن نجومَه
      بكل مُغار الفَتلِ شُدّتْ بيَذْبُلِ

  8. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    وإلى المهندس من بني الشربيني
    هندست كالعصفور في التلحين!
    جزاكم الله خيرا عن جميع المسلمين

    1. يقول الشربيني المهندس / مصر:

      الي السوري العزيز والعروبي الأصيل وومضات امل مع تغريد العصفور
      وشكرا لك وهذا تاج فوق رأسي اعتز به

  9. يقول أبو تاج الحكمة:

    أهلا وسهلا بالسلام العادل
    ولفكره الذهبي والمتكامل!

  10. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    غبطة الاب
    بلنوار قويدر
    أبا النوار يا احلى قويدر°
    وسحرك في القلوب هو المسيطر°

    1. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

      السلام عليكم
      تحية طيبة مباركة لك أخي(ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس )
      إنّ روضك النضر قد ألهمنا محبة فيك ونهر الغزر قد روينا منه كلمات عذبة وأذهب عنّا ظمأ التلذذ بالشعر وأصدقك أنّني من محب الشعر الحر نظرا لما فيه من حرية التعبير الصادق الذي لا يلزمك ببعض قوانين الشعر الصارمة التي تدفعك لأن تقول ما لا تحب أن تقول(هذه وجهة نظري الخاصة بي وأتحمل عواقبها)…
      شكرا لك أخي على كلمالتك رغم قلتها ولكنها رقيقة فيها من حنان الأم لرضيعها وحنان الأب لحفيده وهو يتعلم النطق للكلمات… (لا تؤل كلامي) أنا الجد وأنت الحفيد وأنا الأم وأنت الصغير ههههه
      ولله في خلقه شؤون
      وسبحان الله

1 2 3 4 6

إشترك في قائمتنا البريدية