الجدل الذي تزامن مع بوكر 2019 برأيي هو ظاهرة صحية، فالاختلاف بوجهات النظر، وحسم الموضوع بالتصويت، يدل على التعددية والديمقراطية. والفن لا يمكن أن يخلو من الجانب الذاتي. وهذا ينسحب على الطرفين، المرسل والمتلقي.
ولنأخذ جوائز نوبل، على سبيل المثال، إن فوز نجيب محفوظ بها لا يلغي دور جبرا إبراهيم جبرا أو محمد ديب أو الطاهر بن جلون، لكن نحن دائما محكومون باعتبارات رمزية، وحصول هدى بركات على الجائزة لهذا العام لا يعني أن رواية كفى الزعبي أو إنعام كجة جي قد خسرتا الرهان.
لقد كان بناء رواية «شمس باردة بيضاء» للزعبي مدهشا ببساطته وتسلسله، وهي رواية وجودية بامتياز تختصر تاريخ صراعنا مع هذا الاتجاه. لقد لخصت الرواية عدة تجارب بدون أن تفضح نفسها، حتى لو أنها أشارت لتيسير سبول وكامو، فقد كانت حريصة على عدم المحاكاة والتقليد. وكانت النتيجة بناء شخصية مختلفة مع ماضيها، لدرجة فقدان التوازن. إن رواية الزعبي أبلغ مثال عن معاناة الإنسان البسيط والمغبون على وجه الإطلاق. وللتحديد: إن المشهد الختامي لا يخلو من إعادة بناء (أو تعريب كما أحب أن أقول دائما) لخاتمة مسرحية تينسي ويليامز «عربة شارع اسمها الرغبة». وكل ما في الأمر هو إسقاط معاناة المؤنث على المذكر. وبالمناسبة استطاعت الزعبي بجدارة أن تصور مشاعر شاب في الحلقة المتوسطة من العمر، بعد أن وصل لصدام ثقافي واجتماعي مع واقعه. وقد استغلت معاناته مع الحرمان والاغتراب، لتعيد للأذهان أيضا صورة بطل رواية «الجوع» لكنوت هامبسون بكل ما فيها من فضائحية وتعرية وتقشير عاطفي.
ويمكن أن أقول الشيء نفسه عن «النبيذة» لإنعام كجة جي. فهي رواية مكاشفات ومصارحة. وتبدأ من أجواء الصالونات لتدخل لاحقا إلى أجواء المخادع وغرف النوم. وبهذه الطريقة وضعت كل شخصية أمام نفسها لتكتشف أسباب السقوط والخسارة. وأعتقد أن «النبيذة» كانت بمستوى «الحفيدة الأمريكية» و«طشاري» للكاتبة نفسها. فهي رواية عن النخبة، ولكن أيضا عن أفول المنطقة واندحارها. لقد تمكنت كجة جي في هذه الثلاثية أن تعيد إلى الذهن تجربة جبرا، بما عرف عنها من مزاوجة بين خسارتنا لأنفسنا وخسارتنا للأرض.
لقد تمكنت كجة جي في هذه الثلاثية أن تعيد إلى الذهن تجربة جبرا، بما عرف عنها من مزاوجة بين خسارتنا لأنفسنا وخسارتنا للأرض.
وهذا هو موضوع روايات هدى بركات الفائزة بدورة هذا العام. إنها تعود بالذاكرة إلى لحظة الانفجار لتساعدنا على استخلاص العبرة المناسبة. وتبدو لي شخصياتها مهمومة مثل أي تمثال من الجليد. فهي مكشوفة لشمس الحقيقة ولكنها تهرب منها. ولذلك هي عرضة للزوال والذوبان. وموضوعها المتكرر عن حلقات الحروب اللامتناهية في لبنان ليس دليلا على عقدة تثبيت بمقدار ما هو تأمل رواقي بآثار تلك الحروب، على كافة الأصعدة وبالأخص على صعيد البنود اللازمة لتكوين شخصية متوازنة ومستقرة.
ومن هنا يمكن النظر لرواية سقطت من القائمة القصيرة وهي «ليالي العصفورية» لواسيني لأعرج . لقد أعاد واسيني بروايته للذهن المخاض الذي مرّ به جبران قبل مي زيادة. فقد تعرض لتهمة الجنون مثلها، لكنه لم يدخل المصحة بسبب هجرته المبكرة إلى أمريكا. إن هذه الرواية هي من أجمل كتابات واسيني. كما أنها عمل عن الحرب المستعرة بين القديم والجديد. وأجد أنه استطاع أن يضفي على مي زيادة عدة أبعاد لم يسبقه لها أحد..
أولا روح الممانعة التي رفعت مي من مجرد مثقفة وشخصية صالونات إلى رمز درامي.
ثانيا دورها التنويري الذي كان مختلفا عن عقلية العقاد ورومانسية طه حسين. وحسب الرواية اختارت مي أن تتعامل مع الثقافة والعقل، على أنهما جزء من تجربتها ضد واقع الجمود والتخلف. بعكس العقاد الذي تعالى على واقعه، أو طه حسين الذي تخيل أن الافتراضات الذهنية هي بديل عن الواقع المادي الملموس.
ثالثا وأخيرا مضمونها الاجتماعي الذي كان سببا في أزمتها الصحية. وقد استغل واسيني هذه النقطة ليرسم لوحة معبرة عن أسباب تدهور وانحلال الأرستقراطية العربية. وبظني إنه أشار لمسؤولية هذه الشريحة عما وصلنا إليه من خسارات وفوضى. وجنون مي سواء كان مدبرا أو نتيجة أعراض سريرية هو رمز عن منعطف عصر النهضة وما رافقه من مخاض. وبتعبير الباحثة المعروفة وين جين أويان: كان الجنون في الرواية العربية، هو التعبير العميق عن مشاعر الاغتراب والضعف التي مرت بها الأمة، خلال سعيها لتأسيس دولتها المنتظرة التي تحولت من يوتوبيا إلى حالة من القهر والقمع والتجزئة*.
لقد كانت روايات هذه الدورة متميزة على وجه الإجمال. وشهادة التقدير التي كسبتها هدى بركات لا تقلل من شأن الأعمال المنافسة والتي أقترح أن تجد من ينوه بها سواء بالترجمة أسوة بالرواية الفائزة، أو بعقد ندوات تكريم وتقدير.
٭ أنظر كتابها: «سياسة الحنين واتجاهاته في الرواية العربية». منشورات دار نينوى دمشق. 2017. ص 150 وما بعد. فصل: سيميولوجيا الجنون.
٭ كاتب سوري
ليست البوكر بل كل الجوائز أضحت الآن مرهونة بعلاقات وصفقات وانتماءات، والدليل ضغف الأعمال الفائزة، أو في أحسن الأحوال فهي أعمال عادية أو متوسطة القيمة،ولكنها شهرة وأكل عيش معا.
اطلعت على رواية السيدة هدى بركات..إنها تستحق الفوز بجدارة.فلغتها تأسرك وأسلوبها يبهرك ورؤيتها تسمو بك إلى عليين.لا مبالغة أنها تستحق جائزة نوبل للآداب.مبارك للسيدة هدى بركات التألق الأدبي.الآن أصبح لدينا روائية حقيقية نفخر بها وسط حطام الهشيم المحترق.إنها روائية لبنانية عربية عالمية بحقّ.