منذ البدايات الأولى للولايات المتحدة في شكلها الحالي ونخبتها الحاكمة على قناعة محسومة بأن الأمريكيتين الشماليّة والجنوبيّة مناطق نفوذ مغلقة لواشنطن، لا ينبغي لها أن تكون سوى بمثابة أسواق محصورة بالصادرات الأمريكيّة، وتنتفع من مواردها الطبيعيّة الثريّة شركات أمريكيّة كبرى، وتقود أنظمتها نخب محليّة خاضعة بلا تحفّظ للبيت الأبيض. ولذا يحفل تاريخ المئتي عام الأخيرة بحكايات مروّعة أحياناً عن التّدخلات الأمريكيّة السّافرة في غير ما بلد عند خروجه عن الطاعة: انقلابات، وغزو مباشر وحصارات مستدامة، وحروب سريّة ودعم لديكتاتوريين فاسدين وتوفير الحماية لطبقات مستفيدة من هيمنة الولايات المتحدّة على بلادهم.
وبالطبع كثيراً ما تسببت التّدخلات بأكوام من الجثث، وجبال من الألم، وفقر متسع، لكن تلك كانت حديقة واشنطن الخلفيّة، وما يقوله (اليانكي) يمشي.
محض القوّة المسنود بالإعلام
التّدخلات الأمريكيّة في أمريكا اللاتينية علنيّة كانت أم سريّة، رافقتها دائماً وفي كل مرّة جوقة إعلاميّة متكاملة تبدأ من كبرى تلفزيونات وصحف ومجلات (ولاحقاً المواقع الإلكترونيّة) في الولايات المتحدّة وتتبعها دون تدقيق مختلف وسائل الإعلام الغربيّ والعالمي، فيما لا تكاد تجد الشعوب التي تتعرّض للعدوان لها صوتاً ينقل وجهة نظرها أو حتى لون دمائها المهدورة، اللهم إلا عدد قليل من العناوين ذات الانتشار والتأثير المحدودين.
والحال هذي، لا تَحْتكر واشنطن امتلاك السّرديّة وصياغة نقل الحدث بما يتناسب ورؤيتها فحسب، وإنما تفرض على العالم قيوداً على التفكير وطريقة قراءة الأحداث من خلال سيطرتها على المصطلح والتعابير المستخدمة في العمل الإعلاميّ. فمثلاً «الحصار» يسمى أمريكيّاً «الحظر الإقتصادي» ليتحوّل أسلوب خنق شعوب برمتها في ذهن متلقي المادة الإعلاميّة مجرّد امتناع عن تصدير بعض المنتوجات التجاريّة لا أكثر، مع أنّ الحكومة الأمريكية لا تمنع مواطنيها وشركاتها من التجارة مع كوبا فحسب، بل تحظر أيضا التجارة مع الكيانات الأجنبية التي تتعامل أيضا مع كوبا، مما يعني أن على الشركات أن تختار بين التعامل مع كوبا الصغيرة أو الولايات المتحدة الهائلة (كوبا تعادل نصف في المئة من حجم الاقتصاد الأمريكي).
ويُطلق على كل من يقاوم العدوان الأمريكي ألقاباً مثل إرهابيين ومتمردين، فيما تسبغ على القتلة الذين يكلّفون بقمع الشعوب بـ»القوات الحكوميّة» أو «مقاتلو الحريّة» (حسب موقعهم في السلطة أو المعارضة) ويتهم كل رئيس دولة تعارض الولايات المتحدة بأنّه ديكتاتور متسلط، مهما كانت طريقة وصوله إلى السلطة، بما في ذلك الانتخابات الديمقراطيّة، فيما انقلابيون وجلاوزة يقودون أنظمة مؤيدة للولايات المتحدة يعاملون إعلامياً كرؤساء دول محترمين، لا غبار على شرعيّة تمثيلهم لبلادهم.
شوكة في الخاصرة الأمريكيّة
بغير دول أمريكا اللاتينية كلّها تقريباً، مثلت الثورة الكوبيّة استثناء بارزاً في قدرتها على الصمود في وجه تفوّق أمريكي ساحق.
وطوال أكثر من 60 عاماً، بذلت الولايات جهوداً هجينة في محاولات إخضاع الجزيرة، بداية من محاولات لا تملّ لاغتيال قادتها، إلى التهديد العسكريّ والغزو، وانتهاء بسياسات خنق شعبها في واحد من أطول الحصارات في التاريخ، والذي كلّف كوبا حوالي 12,5 مليار دولار سنوياً من فرص التجارة الممكنة مع العالم.
لكن الإعلام المهيمن عليه أمريكياً، الذي طالما اعتبر الجزيرة دائماً بمثابة مخلب قطّ للاتحاد السوفييتيّ وقطعة من رقعة شطرنج الحرب الباردة، ارتبك في تفسير بقاء كوبا، بل وازدهارها النسبيّ – أقلّه مقارنة بدول أمريكا اللاتينية الأخرى – بعدما أوقف غورباتشوف كل مساعدة لكوبا في 1989 عشيّة الانحلال النهائيّ للاتحاد السوفييتي في 1991. واضطر ذلك الإعلام لاحقاً إلى تعديل روايته بحيث يتم التركيز على الفقر ورقّة حال المواطن الكوبي كنتاج للحكم الديكتاتوريّ والنظام الاشتراكي، مع تجاهل إجراميّ لمفاعيل الحصار المفروض على الجزيرة.
لا شكّ أن الشّعب الكوبي لا يعيش رفاهيّة ولا يحصل على ترف الحياة الإستهلاكيّة التي تبشّر بها الثقافة الأمريكيّة. لكنّه في المحصلّة يحظى بمنظومة تعليم ورعاية صحيّة تتفوّق على مثيلاتها عبر الغرب، وليس فقط دول العالم الثالث. وكوبا واحدة من الدّول القليلة في العالم التي نجحت في تطوير لقاحاتها الخاصة ضد فيروس كوفيد 19، وكانت سباقة في إرسال فرقها الطبيّة لمد العون إلى 40 دولة حول العالم في بداية انتشار الوباء خلال العالم الماضي، ومنها دول أوروبيّة تشارك في الحصار المفروض على الجزيرة.
ولا يمكن واقعياً قبول التفسير البسيط لعلاقة السلطة بالشعب في كوبا كنقيضين متقابلين، إذ أن قطاعات عديدة من المواطنين يشاركون بشكل أو بآخر في هيكليات السلطة، وينخرطون في أنشطة جماعيّة تمكّن البلاد من التعامل مع الضغوط الخارجية. وهناك ديناميّة ملحوظة في التطوير السياسي وإعادة مساءلة المنهجيّات التي تحكم أشكال تنظيم النشاط الاقتصادي لموازاة التحولات الاقتصادية والسياسيّة العالمية.
وفي وقت سابق من هذا العام، انتقل أهم منصب عام في سلطات الجزيرة (الأمين العام للحزب الشيوعي الكوبي) من يد راؤول كاسترو، شقيق فيديل إلى رئيس مدنيّ ولد بعد ثورة الـ1959.
لكن يبقى دائماً أن كوبا جزيرة صغيرة تسبح في بحر معاد تسيطر عليه تماماً الولايات المتحدة، ولذا فالجزيرة تواجه صعوبات جمّة في شراء المواد الغذائيّة من الخارج بسبب الحصار، الأمر الذي يتسبب في نقص كبير من الامدادات وينعكس سلباً على قدرة المواطنين الحصول على السعرات الحراريّة اللازمة في غذائهم.
وتمنع الولايات المتحدة تطوير القطاع الزراعيّ في الجزيرة، مع فشل الاستراتيجية الأمريكية المتمثلة في تجويع الجزيرة وإخضاعها، ومع سعي الشركات الزراعية الأمريكية إلى التطبيع مع كوبا حتى تتمكن من دخول سوقها، أنشأت الولايات المتحدة أخيرا استثناء في عام 2000 يسمح بمبيعات معينة من المواد الغذائية. ففي الصيد ستضطر كوبا إلى دفع «مبالغ نقدية مقدما». ولا يجبر أي بلد آخر على تسليم النقود حتى قبل تحميل البضائع على متن سفينة. ومع منع بائعي المواد الغذائية في الولايات المتحدة من تقديم الائتمان للمشترين الكوبيين، فإن شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية أمر صعب وأحيانا مستحيل، مما يجعل الوصول إلى السوق الأمريكية أمرا مستحيلا. وبالتالي، تضطر كوبا، بحكم تصميمها، إلى دفع أسعار أعلى في أسواق أبعد من الناحية الجغرافية.
الحصار الأمريكي يترجم نقصاً مزمناً في الآلات وقطع الغيار والأسمدة والوقود (تلاحق الولايات المتحدة أيّ شركة تمد كوبا بالوقود وتفرض عليها عقوبات قاسيّة حتى ولو لم تكن تلك الشركات أمريكيّة) ومواد الري وغيرها من التقنيات اللازمة لتحسين الزراعة. ونتيجة لذلك، لا يمكن لكوبا أبداً أن تستفيد من كامل إمكاناتها الزراعية ولا تزال أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة في الجزيرة غير مزروعة بسبب النقص في المعدات، فيما تعتمد المناطق المزروعة على الوسائل التقليديّة للقيام بأعمال الحرث والبذر والسقي والحصاد، مما يقلل بشكل كبير من غلة المحاصيل وإنتاجية الأرض. ولتجنب الغرامات وردود الفعل السبيّة من السلطات في واشنطن، ترفض البنوك والمؤسسات المالية في معظم دول العالم إجراء التحويلات الماليّة إلى كوبا بما فيها التحويلات الشخصيّة المنخفضة القيمة.
نحن كوبا من قبل هيلين يافيومع فشل الاستراتيجية الأميركية المتمثلة في تجويع الجزيرة وإخضاعها، ومع سعي الشركات الزراعية الأميركية إلى التطبيع مع كوبا حتى تتمكن من دخول سوقها، أنشأت الولايات المتحدة أخيرا استثناء في عام 2000 يسمح بمبيعات معينة من المواد الغذائية. الصيد: ستضطر كوبا إلى دفع «مبالغ نقدية مقدما». ولا يجبر أي بلد آخر على تسليم النقود حتى قبل تحميل البضائع على متن سفينة. ومع منع بائعي المواد الغذائية في الولايات المتحدة من تقديم الائتمان للمشترين الكوبيين، فإن شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية أمر صعب وأحيانا مستحيل، مما يجعل الوصول إلى السوق الأميركية أمرا مستحيلا. وبالتالي، تضطر كوبا، بحكم تصميمها، إلى دفع أسعار أعلى في أسواق أبعد من الناحية الجغرافية. وفي الفترة من 19 نيسان/أبريل إلى آذار/مارس 2020 (ما قبل COVID) بلغت التكلفة الإضافية لكوبا 430 مليون دولار.الحصار الأمريكي يترجم نقصاً مزمناً في الآلات وقطع الغيار والأسمدة والوقود (تلاحق الولايات المتحدة أيّة شركة تمد كوبا بالوقود وتفرض عليها عقوبات قاسيّة حتى ولو لم تكن تلك الشركات أمريكيّة) ومواد الري وغيرها من التقنيات اللازمة لتحسين الزراعة. ونتيجة لذلك، لا يمكن لكوبا أبداً أن تستفيد كامل إمكاناتها الزراعية ولا تزال أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة في الجزيرة غير مزروعة بسبب النقص في المعدات، فيما تعتمد المناطق المزروعة على الوسائل التقليديّة للقيام بأعمال الحرث والبذر والسقي والحصاد، مما يقلل بشكل كبير من غلة المحاصيل وإنتاجية الأرض. ولتجنب الغرامات وردود الفعل السبيّة من السلطات في واشنطنالأمريكيين، ترفض البنوك والمؤسسات المالية في معظم دول العالم إجراء التحويلات الماليّة إلى كوبا بما فيها التحويلات الشخصيّة المنخفضة القيمة.
العالم كما يبدو في المرآة الأمريكيّة
ذلك كلّه – وغيره من نتائج الحصار الأمريكي القاسي – لا يمكن الإلمام به من خلال إعلام تهيمن عليه الولايات المتحدّة بشكل شبه تام ولذلك فإن كل تحليل حول كوبا سلباً أو ايجاباً، سيبدو للبعض دائماً نقيض الواقع، اعتمادا على التموضع الأيديولوجي للمتلقي، وهو أمر يتسبب بسوء الفهم لحقيقة الأوضاع على الأرض، ويجعل من التلفزيونات والمحطات الإعلاميّة والصحف شركاء في التضليل وفي الجريمة معاً.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
” وكوبا واحدة من الدّول القليلة في العالم التي نجحت في تطوير لقاحاتها الخاصة ضد فيروس كوفيد 19،” إهـ
يقال بأن اللقاح إسمه عبد الله !! ولا حول ولا قوة الا بالله
مقالك يذكرني بمقال الكاتب انطون سعادة وهو يطرق نفس الموضوع:
برأيه ان الخطأ كان من الاتحاد السوفييتي حين تم سحب الصواريخ النووية اثر ازمة الصواريخ عام 1961.
برأيه انه ما كان يجب عليهم سحب الصواريخ وهذا الخطأ كلفهم وكلف كوبا خسائر استمرت حتى يومنا هذا.
استمرار هذا الحصار الظالم احد هذه الخسائر.
*كان الله في عون (كوبا) التي تنتمي لعالم الخرفان
وتناطح وتقاوم أشرس ضبع في عالم الضباع..