بكوب ورقي؛ شرب قهوته ذلك الصباح.
قديما، هناك، أحبها قليلة، مركزة في فناجين خزفية صغيرة مزركشة.
كان يحسها آنذاك تشعل قلبه كيد الأم تمدّ رغيف الخبز إلى أعماق التنور المتوهج بقرص شمس الظهيرة.
أعطى النادلة ورقة نقدية، وترك لها الباقي.
وماذا يجدي لو عرفت هي، أو عرف هو، أو كل من في المقهى، أنه كوب قهوته الأخير في هذه الدنيا؟
خرج من المقهى بهدوء، حين لم يجد أحداً يتحدث معه، ولم يجد رغبة في التجوال كعادته على الشاطئ البارد دائما. توقف عند الحمائم في الساحة. تألم أنه صار ينسى جلب بقايا الخبز لهم، كما كان يفعل لسنوات طويلة مضت.. يطعمها ويوجهها كأنها أولاده وبناته، فهو لم يتزوج، ويستذكر معها وفي نفسه شجون وحكايا مع الحمائم، لزمن متفجر غريب عجيب مرّ في بلاده قبل عقود وعقود. هز رأسه لا يدري إن كان يعتذر للحمام، أو إنه يتأسى لشيء غامض يحدث له ولا يدرك كنهه. تلكأت خطاه إلى الشقة كمن على موعد سيئ. رأى الطريق يستدير لينقطع كما الخيط الواهي عن طريق آخر سلكه من بلده قبل نصف قرن، وإنه الآن في الثمانين، والثلج أخذ يتساقط بغزارة، ويمحو كل أثر. خطر له ان يعود إلى المقهى، لكنه صار يلهث.
تدارك باب شقته ذات الحجرة الواحدة في الطابق الأرضي منهكا، ولأول مرة ندم أنه قضى عمره وحيداً معتقداً أنه وهبه للناس، أو إنهم أجدر به منه، مقراً أنه لم يفده، ولم يفدهم. ارتدى بعجالة بيجامته الزرقاء الأنيقة التي اشتراها قبل يومين في التخفيضات، وبشيء من وجل وخوف، ارتمى على السرير. وبينما هو في لجة حلم؛ أدرك ما يحدث له، ولم يندم أنه لم يذهب إلى المستشفى، كأنه كان ينتظر هذا اليوم بهدوء ولهفة وراحة!
لكنه فكر كيف أن آخر أحلامه مشوش، وبسيط جدا:
الريح الآن تطوح بكوب قهوته الورقي إلى الساحة، وسرب الحمام يجفل ويطير عالياً، ملامسا السماء، ويتوارى في طياتها! وإنه سينسى طويلا، وطويلا جداٌ، بقايا الخبز، ولا يحملها للحمائم، والخبز سيعطن، وتقرع رائحته أبواب الجيران، ولا أحدَ يكترث، وإن أنفاسه الأخيرة وهي تتلاشى أخذت تحرك ستارة النافذة، وثمة أفق مضيء ينفتح أمامه، كأنه يناديه وهو لا يريد ولا يستطيع أن ينهض إليه!
كاتب من العراق