كورال جوى: الدمشقيات القادمات من الزمن الجميل

إبراهيم الزيدي
حجم الخط
3

 دمشق – من إبراهيم الزيدي: الشام ليست مسلسل «باب الحارة»: (عگيد وشبرية وصوت عريض). تلك لعبة الخاصة، لاستجرار العامة! وهي ليست أغنية لفيروز، وإن غنتها. ولا هي قصيدة لنزار قباني، وإن أنشدها. الشام أبعد من ذلك في التاريخ، وأجمل منه في المستقبل. جمالها الذي انتهكته «طوابير» الخبز والغاز والمحروقات، ما زال يسابق الشمس إلى نوافذ الأمل في نفوس أهلها. يطل عليهم من شرفات الفن والأدب، ليملأ فراغ الأمكنة من الأحبة.
الشام الآن مجموعة أحزان كبيرة، تبحث عن مقبرة تحتويها. ومجموعة أفراح صغيرة، تنتظر عيدا يلمها: (آذان الجوق في الجامع الأموي)(فنجان قهوة في دمشق القديمة) (اختلاط عبق البزورية مع أصوات الباعة في سوق الحميدية) وثماني عشرة ياسمينة دمشقية قفزن فوق سن اليأس السوري، فكان (كورال جوى).
هنا بالذات لم يستطع الاسم أن يسبق المعنى، كما هو معروف. بل تطابق الاسم والمعنى وأصواتهن المثقلة بحنان الأمومة.
تلك النسوة الدمشقيات القادمات من الزمن الجميل، لا يعرفهن الإعلام السوري، ولا يريد أن يتعرف عليهن! إنه مشغول بمطربات البوتوكس!
ثماني عشرة امرأة لم تستطع الحرب أن تفقدهن شغفهن بالغناء! ثماني عشرة امرأة قررن الغناء للحب والفرح، وليس للمناسبات العابرة. التقيتهن في المركز الثقافي، حيث يتدربن كل يوم أربعاء، بإشراف المايسترو حسام الدين بريمو. فوجدتني وجها لوجه أنا والشام. الشام التي في ضمير التاريخ، الشام التي في ذاكرتي، شام الحب والجمال. شام: (تئبرألبي).
قبل معرفتي بهن كنت أقول: احذر بعض الناس، فإن التحدث إليهم قد يصيبك بنوبة حب. بعد لقائي بهن صرت أقول: احذر بعض المغنين، إن أصواتهم لا يمكن الشفاء منها.
جلست أستمع إليهن، وللمرة الأولى أشعر أن الاستماع فن، ويحتاج المستمع إلى كل جوارحه ليعيش تلك الحالة التي اسمها: (الطرب). كنت أراقب يد المايسترو وهي تنقل أصواتهن من مقام إلى مقام. وكيف يتحول ثمانية عشر صوتا إلى صوت واحد! (يا طيرة، طيري يا حمامة) (بالي معاك، بالي بالي) (ومن الشباك لارميلك حالي) (زينو المرجة).
ما يميز كورال جوى هو التنوع في المغنى (يا مسافر وناسي هواك) (عايشة وحدا بلاك) (لما راح الصبر منه) (يا بو العيون السود) (لولا الملامة يا هوى) (تسرح وتمرح) (بتندم). إضافة للموشحات.
على هامش الاستراحات بين الأغاني، كنت أتحدث إلى المايسترو تارة، وأتحدث إلى بعضهن تارة أخرى.
في تلك القاعة كان الطريق إلى الحب سالكا. هناك يتحول الجمال إلى فن، والأمومة إلى حنان، والموسيقى إلى صلاة. في تلك القاعة المغلقة كانت سورية التي نعرفها. ما إن تفتح الباب، وتغادر تلك القاعة حتى تجد سورية أخرى! سورية المتعبة، وتعبها يغري الآخرين أن يطلقوا النار على الأمل فيها، سواء كان الأمل غابات في جبال الساحل، أو حقول قمح وشعير في محافظة الحسكة، أو أطفالا في محافظة الرقة، وقد فعلوا! إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقتلوا الحب فيها.
تسع سنوات والإعلام يمشي فوق مأساتنا بأقدامه الثقيلة، وقد قتل في نفوسنا آمالا كثيرة، إلا أنه لم يستطع أن يقتل الحب. لا أستطيع أن أقول عن تلك النسوة سوى أنهن خير من يمثل الحب. ولا أحد يستطيع أن يقول عن ابتسامات الأطفال في مخيمات اللجوء سوى أن تلك الابتسامات تمثل الحب، وثمة ورود تفتحت على أنقاض حرائق الغابات في الساحل، تلك الورود تمثل الحب أيضا. وما هذا.. وذاك إلا رسائل حياة للحياة. أيها العالم نحن ما زلنا أحياء، وسنبقى. يمكنك أن تقتل المغني، ولكنك لا تستطيع أن تقتل الأغنية.
شهادات:
٭المايسترو حسام الدين بريمو.
لم يجتمعوا ليغنوا، هم غنوا ليجتمعوا. لم يسخروا الكورال لحناجرهم، بل سخروا حناجرهم للكورال. في البداية كانوا رجالا وسيدات، تسرب الرجال من هذا النشاط النبيل، وبقيت سيدات كورال جوى. هن حفنة سورية، آمن أفرادها بأهمية الجمال في زمننا هذا، وبأهمية اجتماع السوريين في زمن اتسم بالفرقة. أعرف غرابة وصعوبة أن تقف على المسرح سيدة لها انجازاتها، وبصمتها عبر عقود، وتغني مع أخريات. لكنني أعرف أيضا أن إيمانهن بنبل ورقي هذا الفعل يسهل عليهن المهمة. على النقيض مما هو سائد في علاقة المدرب مع المتدربين، حين أكون معهن أنسى كوني موسيقيا محترفا، وأعيش بينهن سعادة غامرة.
٭ مارية المالح- رئيسة الكورال.
حبنا للغناء جمعنا. انتقينا بعضنا البعض بعد غربلة الايام وشكلنا نسيجا نحرص على بقائه متجانسا لإيماننا ان الغناء بحب وشوق، وبنفَس واحد يبعث على الفرح والسعادة. تجاوزنا الكثير من الاعتبارات الاجتماعية بحكم مواقعنا ،وتقدًم سن الاغلبية منا، واستطعنا ان نصل بحضورنا وادائنا الى حب الناس وشوقهم لحفلاتنا . نغنّي التراث والشعبي لكسب مختلف الاذواق. نحن نسعٰد ونُسعِد ونرتقي.
٭ هدى الخرسا – أمين سر.
كنت أبحث دائماً عن مجال ممتع راق أمارسه، يلطف جو ضغوط الحياة. ولحسن الحظ كانت ولادة فكرة كورال جوى في بدايتها فانتسبت إليه مع يقيني أن الفن الراقي بأنواعه يعتبر من النقاط الركيزة التي تُقاس بها حضارة الأمم، عدا عن أنه لغة عالمية للتفاهم والتواصل بين الشعوب. حالفني الحظ بوجودي ضمن مجموعة من السيدات المتميزات اللواتي يتمتعن بشجاعة وجرأة الخروج من شرنقة وفكر المجتمع المقيد، وإيمانهن بأن الغناء والموسيقى الراقية لها تأثير كبير على تحسين مزاج الإنسان ونفسيته. استطعنا بكل صدق تحقيق قانون الربح الجماعي الذي تعلمناه من استاذنا القدير حسام الدين بريمو، الذي أكد لنا أنه محال للعمل أن ينجح الا إذا انصهرت حنجرة الأنا بحنجرة النحن مع الحفاظ على الخصوصية. فغنينا وسُعدنا وأسعدنا…
٭ ليلى البحرة – عضو مؤسس.
كورالنا (جوى) يعتبر ملتقى فنيّاً، لسيدات متقاربات بالعمر، والثقافة، والحس الفني، ولديهن الرغبة في الغناء. تلك الرغبة لم تكن متاحة حين كنا أصغر سنا. فالانشغال بالبيت والأولاد وتحمل مسؤوليات الأسرة يبعد المرأة عن هواياتها. الآن وجدنا في هذا الكورال متنفسا. ومارسنا من خلاله فعل تحدي الحرب التي نعيشها. كان هدفنا أن نفرح، ونفرح من يسمعنا. لا أستطيع أن أصف مشاعر الفرح التي تنتابنا ونحن نغني. لقد غنينا ونحن على يقين أن الناس ستنسى صوت الرصاص، وتتذكر أصواتنا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ليلى:

    شيء جميل إلى حد البكاء

  2. يقول سونا كفا:

    رائعة الفكرة والكلمات التي وصفتها …وصفة طبية وجودكم ضد أمراض اليأس والإحباط بوركتم وشكرا أستاذ ابراهيم على التوثيق

  3. يقول مارية المالح:

    كل الشكرللأديب ابراهيم الزيدي على مقالته الرائعة ، منّي ومن كل الكورال ،، شكرا من القلب

إشترك في قائمتنا البريدية