على وقع التطورات العسكرية المتلاحقة في الحرب الروسية-الأوكرانية وما تشهده هذه الأيام من تهديدات متصاعدة يتبادلها الطرفان، تبدو الدول الأوروبية عاجزة عن احتواء صراع عادت به الأسلحة الألمانية إلى التواجد على الأرض الروسية ويهدد على هوامشه البعض داخل القيادة الروسية والبعض الآخر من حلفاء الرئيس فلاديمير بوتين باستخدام الأسلحة النووية. يبدو الأوروبيون عاجزين أيضا عن السيطرة على اختلافات مواقفهم بشأن الحرب، بل صارت الاختلافات حول روسيا وأوكرانيا بين مكونات الائتلافات الحاكمة في كبريات عواصم الاتحاد الأوروبي موضوعا للتغطية الإخبارية اليومية. فاندفاع حكومات ألمانيا وفرنسا وبولندا نحو تسليح الجيش الأوكراني وتقديم المساعدات الاقتصادية والمالية لحكومة كييف وفرض عقوبات واسعة على روسيا، من جهة، يقابله، من جهة أخرى، تحفظ حكومات دول كالمجر وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا واليونان على سياسات المواجهة المفتوحة مع العملاق الروسي الذي لا يريدون حصاره ولا إنزال هزيمة عسكرية مذلة به ولا إخراجه من حسابات التعاون الأوروبي لاستعادة السلم والأمن القاريين.
وبينما لا تبدو السياسات الألمانية والفرنسية والبولندية إلا كسياسات تابعة لنهج الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تريد إنهاء الحرب قبل إجبار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على سحب قواته من الأراضي الأوكرانية والتنازل عن مطالبه الحدودية (إن في شمال شرق أوكرانيا أو في شبه جزيرة القرم) وقبل فرض المزيد من توسع حلف الناتو ليحاصر روسيا من كافة الاتجاهات وقبل إثبات التفوق التكنولوجي للأسلحة الغربية على كل ما عداها (والرسالة هنا للصين وليس لروسيا فقط) يدلل تحفظ الدول الأوروبية الأصغر على قلقها المشروع من تواصل الحرب دون أفق لحل سياسي وتسوية سلمية وقلقها أيضا من تداعيات الحرب الأمنية والاقتصادية الواسعة على القارة العجوز التي صارت مجددا مسرحا لموجات نزوح ولجوء كبيرة ولأزمة خانقة فيما خص ضمان إمدادات الطاقة والسيطرة على أسعارها. بل أن حكومات دول أوروبية أخرى كإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وهي عادة ما تتبع النهج الأمريكي أو تقترب إما من السياسات الألمانية أو الفرنسية، باتت، مع غياب أفق الحل السياسي للحرب، تبحث عن توافقات مباشرة مع روسيا تضمن بمقتضاها الحصول على إمدادات طاقة رخيصة نسبيا وتحمي اقتصاداتها من موجات التضخم التي يسببها ارتفاع أسعار الطاقة.
بل إن الانقسامات الأوروبية تتجاوز حدود الموقف من روسيا وأوكرانيا وسياسات التعامل مع التداعيات الناجمة عن حربهما إلى التوجهات المبدئية بشأن قضايا السلم والأمن العالميين والتدبير المستقبلي لاحتياجات الاتحاد الأوروبي من الطاقة التي لا تمتلك القارة العجوز بعيدا عن روسيا سوى القليل من مصادرها الطبيعية. والمفارقة الحقيقية هنا هي أن الدولتين الأكثر حرصا منذ 1945 على تجنب الحروب والتصعيد العسكري وسباقات التسلح والأكثر استثمارا في دبلوماسية فض المنازعات والتسويات السلمية والحلول السياسية، وهما ألمانيا وفرنسا، لم يأتيا منذ اشتعال الحرب في ربيع 2022 وإلى اليوم بمبادرة تفاوض واحدة أو خطة سلام أولية ولم يتعاملا سوى بعدم اهتمام بالغ مع أفكار السلام الصينية التي صاغتها دبلوماسية بكين وحاول وزير الخارجية تشين جانغ مؤخرا حشد الدعم لها في جولة بين العواصم الأوروبية. ويتواكب مع الانصراف المحبط لبرلين وباريس ومعهما وارسو عن جهود التسوية السلمية واندفاعهما نحو تقديم السلاح والمساعدات للجيش الأوكراني والترويج الكارثي للرغبة الاستراتيجية الأمريكية في إنزال هزيمة عسكرية بروسيا ليس لنتائجها سوى أن تكون كارثية على عموم القارة الأوروبية.
صارت الاختلافات حول روسيا وأوكرانيا بين مكونات الائتلافات الحاكمة في كبريات عواصم الاتحاد الأوروبي موضوعا للتغطية الإخبارية اليومية
يتواكب مع ذلك تواصل إنكار حكومات ألمانيا وفرنسا وبولندا لمسؤولية حكومة كييف عن أعمال عدائية لم يعد يمكن معها مواصلة فرض ثنائية روسيا المعتدية وأوكرانيا الضحية على الرأي العام في القارة العجوز والعالم. فعملاء الاستخبارات الأوكرانية، وفقا لما أكدته تقارير إعلامية مستقلة، كانوا وراء تفجير خط إمدادات الغاز الطبيعي «نورد ستريم 2» ووراء اغتيالات لشخصيات روسية قريبة من بوتين أو مؤيدة لسياساته. والاعتداءات بالمسيرات على العاصمة موسكو وتفجيرات البنى التحتية في شبه جزيرة القرم ومناطق أخرى هي أيضا من صنع الأجهزة الأوكرانية حتى وإن لم تعلن كييف مسؤوليتها عنها. مثل هذه العمليات يتجاهلها الألمان والفرنسيون والبولنديون وينكرون التقارير الإعلامية المستقلة التي تؤكدها (وهي تستند إلى مصادر استخباراتية غربية) لأنها تنسف ثنائية الخير الأوكراني والشر الروسي التي يحشد على أساسها الدعم العسكري والاقتصادي والمالي لحكومة كييف، ويستقبل وفقا لها الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في كبريات عواصم الاتحاد الأوروبي كبطل مغوار ومدافع صلد عن القيم الأوروبية. بل أن الغزو العسكري الأوكراني للأراضي الروسية في إقليم كورسك واستخدام الأسلحة الغربية لإحداث اختراق في الدفاعات الروسية وعمليات تهجير السكان الروس من المناطق التي باتت القوات الأوكرانية تسيطر عليها، كل هذا يقضي على ثنائية الخير الأوكراني والشر الروسي المزعومة تلك.
وبفعل تداعيات الحرب، تتعمق الانقسامات الأوروبية فيما خص سياسات تأمين إمدادات طاقة غير مرتفعة الأسعار وهي لا غنى عنها لاقتصاديات ومجتمعات القارة العجوز التي تعتمد في رخائها على الإنتاج الصناعي والزراعي المتطور والتكنولوجيات الحديثة وقطاعات الخدمات كثيفة استهلاك الطاقة. قررت ألمانيا والدول الاسكندنافية الأعضاء في الاتحاد، السويد والدنمارك، عدم التراجع عن قرار إغلاق المفاعلات النووية المنتجة للكهرباء ومواجهة الضربة المزدوجة التي تلقتها في مجال أمن الطاقة بقعل العقوبات المفروضة على الغاز الروسي وارتفاعات الأسعار العالمية بتخصيص المزيد من الموارد المالية للحصول على ما يكفي من احتياجاتها من الطاقة على المدى القصير (من الخليج ومن شرق البحر المتوسط) والتوسع على المدى المتوسط والطويل في الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة داخل أوروبا وخارجها (خاصة في جنوب البحر المتوسط مع ربط شبكات تسييل وتصدير الغاز وإنتاج الهيدروجين الأخضر وإنتاج الكهرباء في بلدان كمصر والجزائر والمغرب مع الشبكات الأوروبية في اليونان وقبرص وفي إيطاليا وفي أسبانيا).
في المقابل، تتردد فرنسا، على سبيل المثال، فيما خص التخلي عن الطاقة النووية وينقلب ترددها في سياسات بلدان كبولندا والمجر وغيرهما في شرق ووسط أوروبا إلى تمسك صريح بالطاقة النووية ومواصلة تشغيل المفاعلات النووية التي كان الاتحاد السوفييتي السابق قد بناها في تلك البلدان في النصف الثاني من القرن العشرين. وتتبع حكومات إيطاليا وإسبانيا والبرتغال خليطا من سياسات الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة وخطط التعاون مع جنوب المتوسط والبحث عن سبل الحصول على الغاز الروسي بأسعار لا تثقل كاهل موازناتها.
والحصيلة هي خلافات أوروبية لا تنتهي، وفاعلية غائبة للاتحاد في مجال التفاوض من أجل إنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية وفيما خص تأمين إمدادات الطاقة والاستثمار فيها، وقراءة استراتيجية خطيرة لمستقبل الطاقة في القارة العجوز التي لا تملك على عكس الولايات المتحدة المكتفية ذاتيا رفاهية الاستغناء عن موارد روسيا أو تقليل اعتمادها على استيراد الطاقة من خارجها.
والحصيلة هي قلق أوروبي يسفر عن الكثير من التبعية للسياسات الأمريكية، والكثير من الانقسام بشأن روسيا التي يتناسى البعض مركزيتها للسلم والأمن القاري والعالمي، والكثير من الاستخفاف بالتداعيات الخطيرة للصراع العسكري وسباق التسلح الراهن، والكثير من الغموض الاستراتيجي في القارة العجوز بينما النظام العالمي المحيط بأوروبا يتغير سياسيا واقتصاديا وماليا وتجاريا.
كاتب من مصر