كورماك مكارثي… رجل المعجزات

جون هيلكوت | ترجمة: صالح الرزوق
حجم الخط
0

أولا، أرى أن الكتابة عن هذا الموضوع أمر في غاية الصعوبة، فخسارة قدرات فنية بهذا القدر من التفرد والتميز الملحوظ شيء، وخسارة صديق تعرفه من هذا النوع شيء آخر. تواصلنا في البداية عن طريق مكالمة هاتفية قبل أسبوع واحد من بداية تصوير «الطريق». وحررني كورماك من أثقال هائلة حينما قال ببساطة: «الكتاب كتاب، والفيلم فيلم»، فهما وسيطان مختلفان، ولا يتوجب عليّ غير أن أعمل حتى أنتهي من فيلمي – ولم يكن قد رأى حينها السيناريو المكتوب. ولاحقا ونحن نصور في أحد الأماكن أعرب عن امتنانه للأسلوب الواقعي الذي التزمنا به، حينما حرصنا على استعمال مناطق الكوارث الأمريكية. لكن أتت لحظة الترقب أخيرا حينما كان علينا، أنا وجو بينهول، الذي أعد هذه الرواية الثمينة للسينما، أن نعرض على كورماك شريط الفيلم. ومباشرة بعد آخر إسطوانة اختفى كورماك حوالي 20 دقيقة وسبب لنا القلق، ثم عاد ليخبرنا إنه «لا يريد أن ينفخ على مؤخراتنا الدخان»، ولكنه افتقد عدة سطور من الرواية، وهي حوار بين الأب والابن، كالتالي:
«ماذا ستفعل إذا لقيت حتفي؟».
«إن مت سأموت معك أيضا».
«وهكذا لا نفترق وتبقى معي؟».
«نعم. هكذا أبقى معك».
لحسن الحظ أننا صورنا هذا الحوار، وكنت في غمار معركة مؤلمة وشرسة مع جماعة واينستاين (الشركة المنتجة) ومن ضمن بنودها إعادة هذه السطور الحاسمة إلى الفيلم، ثم ذهبنا معا إلى غداء عمل ناجح امتد زهاء خمس ساعات. لم يكن كورماك شخصية عظيمة فقط، ولكنه إنسان فكاهي أيضا. طبعا هو كئيب، وفي الوقت نفسه لديه روح فكاهية ملحوظة. وأن يجد شيئا مضحكا في أضيق الظروف شيء من طبعه، ولاسيما ما يتعلق بالطرائف الكونية. ثم، على مرّ السنين، قربنا من بعضنا بعضا، حبنا المتماثل والعميق لأبنائنا. وبدأت الوجبات تطول، وكذلك المكالمات الهاتفية، وساعدني ذلك على الاستمرار ومتابعة مشواري في أطواره العديدة، لقد كان معلما شديد المراس، وأصبح بالنسبة لي كل شيء. وبدت لي حواراته مع ابنه جون فرانسيس وكأنها تكرار لما ورد في «الطريق».
كان كورماك إنسانا شرسا غريبا على مجتمعه، واهتم في حياته وأعماله بأشخاص اغترابيين. ولم يهتم بالحمقى، وقلل من شأن مغريات هوليوود، وابتعد عن دائرة الضوء بشكل عام، وكل أمراض تضخم الأنا igo التي تأتي بالشهرة معها. وعندما حضر حفل الأوسكار برفقة ابنه، قال إن أحد أهم وقائع الأمسية هو اكتشافه، وما تبع ذلك من حوار مطول مع «رجل» تم إعداده لهذه المناسبة، ليؤدي دوره لقاء أجر مدفوع. وانتاب كورماك الامتعاض من هبوط الفن والثقافة، والزيادة في التشظي والعبث، أو كما سبق لــ»ت. س. إليوت» أن قال: «الانصراف عن الذهول بالشرود». وفي إحدى المرات قدم له ابنه هاتفا خليويا، وفي نهاية اليوم وضعه بهدوء وراء عجلة السيارة، ثم مرّ فوقه. أما جهازا الأي باد والكومبيوتر المحمول فهما عند سريره فوق كومة من الكتب والورق، ولم يلمسهما على الإطلاق، بينما طابعته الكاتبة اليدوية التي يبلغ قيمتها 20 دولارا فلم تخذله أبدا، وهي هناك بجانبه، على لوح من الخشب، وجاهزة للعمل حتى آخر نفس. سألته مؤخرا إن كانت الإنترنت نشاطا داخليا لعقلنا الجمعي، وهي تحت سيطرة الهو id والذي يحفر حاليا ثقبا سيبتلعنا جميعا. رد لقد أصابه الصمم بالتأكيد من جراء الصوت الهائل الناجم عن «البلع». أخبرني كورماك أنه لم يشعر بالضجر في كل حياته. وكتاباته تعكس ذاته الرواقية حقا وتحمل عقله الفضولي الواسع بالإضافة إلى الدقة الفولاذية الباردة التي يتصف بها العلماء، إلى جانب التقاليد النثرية لشاعر عظيم. ومهما كان الموضوع مؤلما، لم يكن يتردد أمام الحقائق والتابوات الضارية. كلا. لنثر كورماك قوة واقعية تصدمك صدمات حقيقية، وتجرك إلى لحظة وضوح تسبح في الفضاء. وهي معراة تماما من الأوهام، وتحرك الخيال، ولا يوجد وقت تراجع فيه عن النظر الثاقب والمباشر في الهوة الوجودية. ولم يكن عدميا رغم الكآبة التي يواجهها. وهو ما أحسن عنه التعبير بول شريدير حين قال: «أعتقد إن الإنسان يتألم من السلوك التقدمي الإيجابي الذي يضاعف من وعيه بالغواية الناجمة عن التفكير السلبي. وأقصد الوعي بالتكبر الداخلي والذي يدعوك أنت وغيرك للتخلي عنه».
ويجدر بي القول إننا تقاسمنا حب الموسيقى، واتفقنا مع العلوم الجديدة التي تؤمن بأن الموسيقى سبقت اللغة، بمعنى أن اللغة تطورت من الموسيقى. ومع إطلاق «الطريق» في صالات العرض الأمريكية، بدّل الموزعون أساليبهم، ليدفنوا الفيلم. وما يدعو للسخرية أن النجاح المذهل تحقق على الشاشة الصغيرة المأجورة. ومنذئذ ناقشت مع كورماك مطولا كيف يمكننا تحويل «أفق بلون الدم Blood Meridian» إلى فيلم ناجح. وكان يعتقد أن هذا ممكن، ولكن ليس كله. وكان عليه أن يتابع العمل لينتهي من آخر رواية بنى عليها آماله الكبيرة. لكنه للأسف بدأ بالتباطؤ بسبب التقدم بالعمر ولأعراض صحية تحكمت فيه بالتدريج. بقيت عائلته معه ومن حوله، ورافقناه لينتهي من رواياته. ثم بدأ في سيناريو «أفق بلون الدم» وخلاله تباطأ مجددا. والآن حان وقت التباطؤ النهائي. وعلى نحو من الأنحاء لم أكن أعتقد أن ما حصل ممكن. كان قوة حية. وأحيانا كنا ندعوه «الجمل» لأنه نادرا ما يشرب الماء، هذا إذا شربه. كان إنسانا خارقا، وشخصا أبدع لنا جميعا معجزات لا تموت.

جون هيلكوت: مخرج أفلام أسترالي / كندي / **عن «الغارديان الثقافي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية