ميزة الإنسان المعاصر هي أنه دائم الجري والسعي. وهو في سعيه لضمان حياته يجري بلا توقف. ميزة فيروس كورونا أنه عمل على إيقافه للتأمل في جريه وسعيه، وما أحاطا به حياته من قلق وتوتر وتلهف. من يجري لا يسمع أي كلام يوجّه إليه بخصوص ما يقترفه، ضد الإنسان والبيئة، من أعمال تولدت عن اللهاث وراء التميز، وضمان ما فوق الرفاه على حساب الآخرين. ومن أوقفه كورونا عن الجري، هل يمكنه أن يسمع الدروس التي فرضتها عليه، على أمل معاودة السعي بوتيرة أخرى، وبقيم مختلفة، عما كان قد تنكر له في زخم السباق السريع والهائج ( Fast and Furious)، أو اللهاث وراء تحقيق الفوز بالحياة، ولو بسحق كل المتسابقين (ألعاب الجوع)؟
بتوقيف حدث الفيروس الحركة الدائبة بخلقه أحداثا أخرى، أدى إلى بروز ممارسات جديدة، وبداية تبلور أفكار قديمة، وقد رهّنها هذا الحدث الرهيب على المستوى العالمي، ليدفع الجميع إلى التسليم بأن المحطات الكبرى في تاريخ البشرية تدفع في اتجاه إعادة سماع ما كان يستهجن، أو لا يتم الالتفات إليه لأنه يعيق الجري المتوحش، والسعي المهتاج. وفي هذا باب واسع للتأمل في: «وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين».
يحدث أن تنقطع العلاقات بين أفراد العائلة لأتفه الأسباب، وحين تحصل فاجعة تمس أحد أفرادها، تجد الجميع يأتي من مختلف الأصقاع للمشاركة في المصاب الجلل، وتبدو الرحمة ويحصل التعاطف بين الجميع، وسرعان ما تعود حليمة إلى عادتها القديمة، فتأتي كارثة أخرى، فيكون الاتصال بعد الانفصال، وهكذا دواليك. ما يقع على صعيد العائلة، يقع على قبيلة، أو دولة أو البشرية جمعاء، وأحداث فيروس كورونا دالة على ذلك. لماذا لا يتوقف الجري تلقائيا، ويكون الاستماع إلى ما يقال، قبل حصول الكوارث؟ هل يمكن ربط الجواب بالوضع البشري العام، الذي تتحكم فيه شهوة الربح على الخسارة، وقد تحولت من تفكير طبقة أو فئة اجتماعية لتصبح جائحة عامة لكل الأفراد والجماعات والمجتمعات؟ إن نظرة سريعة إلى كل تاريخ البشرية تبين بما لا يدع مجالا للشك، أن الإنسان ضعيف وهلوع وجزوع وعجول: «وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ». إنه الإنسان النسّاء. بين الجري والتوقف، أو الإنابة والنسيان، يتحدد المصير الإنساني.
لن نتساءل عن الأسباب والخلفيات والنتائج المترتبة عن هذا الوضع الجديد. نريد فقط أن ننتبه إلى أن الإنسان يمكن أن يكون خيّرا وشريرا في الوقت نفسه.
ميزة فيروس كورونا، عالميا، هي أنه وضع الإنسان، بغض النظر عن الوطن واللغة والثقافة في وضع واحد، وأزال الفروقات التي كانت طاغية، فكان الخوف والهلع سمة فرضت نفسها على الجميع. وصار الكل ينتهج شكلا من الممارسة لإيقاف النزيف الذي أحدثته الجائحة. لن نتساءل عن الأسباب والخلفيات والنتائج المترتبة عن هذا الوضع الجديد. نريد فقط أن ننتبه إلى أن الإنسان يمكن أن يكون خيّرا وشريرا في الوقت نفسه. وأن إكراهات خاصة يمكن أن تدفعه إلى أن يكون هذا أو ذاك، في وقت، وفي آخر أن يكون ذاك لا هذا. وأن التربية على «الإنسانية» هي التي يمكن أن تجعله خيّرا، وأن تربيته على أن يكون مسمارا في عجلة لا يمكن إلا أن تحوله إلى مهتاج ومتوحش. من يتأمل جيدا، من بين عشرات، ما يتوصل به، أو يسمعه، أو يقرؤه، أو يشاهده من صور، بخصوص ما ولّده كورونا، يتبين له أن في الإنسان طاقات عجيبة يمكن أن يفجرها في لحظات المعاناة، تختلف عن نظيرتها في أوقات الجري والسعي الدائبين، اللذين يفرقان الناس إلى جماعات متناحرة ومتصارعة لا يهمها إلا الوصول إلى تحقيق مآربها على حساب غيرها. لقد برز أن للدولة دورا كبيرا في أن تكون مختلفة عما تكون عليه في الأوضاع العادية. وأن الشعب يمكن أن يتوحد معها ليتعاون أفراده جميعا في ما يهم الصالح العام. هذا هو الدرس الأساس الذي استخلصته مما وقع. إن التبرعات، وأشكال التضامن، والدعوات إلى الانخراط الجماعي في مواجهة تحدي الجائحة، والتضحيات التي قدمتها بعض القطاعات والفئات، كلها دالة على أن «الثقة» يمكن أن تتحقق بين مختلف مكونات المجتمع، إذا ما كانت موجهة فعلا، وبإرادة صادقة، وممارسة حية لخدمة الصالح العام.
هيمن منذ الربيع العربي، وتوالي الحكومات، التي لا تعمل إلا من أجل خدمة مصالح طبقة خاصة على حساب باقي الطبقات، وفي ظل انتشار الفساد بكل أشكاله، وغياب المسؤولية وانعدام المحاسبة، وفي هيمنة الخطابات الشعبوية والصراعات بين الأحزاب وداخلها، ضياع «الثقة» بين مختلف مكونات المجتمع. لا أحد يثق في أي قطاع من القطاعات، ولا أحد يثق فيمن يتعامل معه، والكل يقول: رأسي، رأسي. الكل يجري ويسعى بكل الطرق والممارسات، من أكثرها دناءة إلى أقصاها انتهازية لتحقيق مآربه، وبغض النظر عن أي قيمة من القيم الإنسانية. هذه الصورة التي تكرست، وحولت الوطن إلى حلبة سباق محموم، جاءت الجائحة لتبين أن استعادة الثقة ممكنة، لأنها كامنة، إذا ما صرفت لخدمة الجميع.
٭ كاتب مغربي
صحيح يا دكتور سعيد قد تولد من رحم جائحة كورونا شعور جديد افتقدناه في ايام السلم الصحي
–
و لا اتمنى ان يطول عمر كورونا و توقيفها لسير حياتنا كي يتمدد ذلك الشعور الدافئ بالثقة الذي غمرنا من بين
–
الضائقة و لكن اتمنى ان يتأصل فينا و بغدو من طبيعتنا
–
تحياتي
ياسيدي المحترم : عالم ما بعد كورونا سيكون مختلف تمامًا عن عالم ما قبل كورونا : كمًا ونوعًا واتجاهًا…إنّ الموضوع ليس مجرد جائحة جمعت البشريّة في مصيبة واحدة بعد لهاث ؛ بل فيروس كورونا متغيير نوعيّ في انقلاب شؤون الحياة وخريطة الإنسان الحديث.إنه الأبيل الذي جاء من أجل تأديب رأسماليّة العولمة الظالمة البطش…فجعلها كعصف مأكول ياقريش.إنه مثل ( كلا ) في اللغة التي تنفي الكلام الذي قبلها وتثبت الكلام الذي يجيء من بعدها كالعرش.هكذا فيروس كورونا نسف القبل وسيثبت البعد…
وهذه هي الغاشية التي حلّت على الكرة الأرضيّة قاضية ؛ على الأقل منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة.ورغم أنه فيروس قاتل لكنه فيروس واع ( مناضل ) قادر؛ سيعيد ترتيب أوّلويات النّاس بعد غربة عن قيم السّما…فمنْ شاء فليومن ؛ ومنْ شاء فلا ؟ { أحسب النّاس أنْ يقولوا آمنا وهم لا يفتنون.ولقد فتنّا الذين من قبلهم ؛ فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبيـن.أم حســب الذين يعملون السيئات أنْ يسبقونا ؛ ســاء ما يحكمـون }(سورة العنكبوت 2/4).