يُكشف المعدن الأصيل عند الصقل، والإنسان الحقيقي عند اشتداد الحاجة. عرّى كورونا معادن الأفراد والمجتمعات، وأبان الحق من الباطل، والواقع من الادعاء. كما أنه بيّن لمن لا يرى صحة مثل: «لا يحك جلدك مثل ظفرك»، وأن الاعتماد على الآخرين لا يسلمك إلا إلى الهاوية. هذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه كورونا لكل ذي عينين: الاعتماد على الذات.
يمكن للدول عامة إعادة النظر في علاقاتها مع بعضها، ودرس إيطاليا بليغ، في الكشف عن العلاقات بين دول لا يجمعها إلا اتحاد غربي يقوم على المصالح الأنانية. كما أنه في المقابل يبين للعرب والمسلمين أن اتحادهم الذي يمكن أن يبنى على أساس مصلحة الأمة، تجسيدا للحديث النبوي الشريف: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، هو الركيزة التي يمكن نهجها للاعتماد على الذات، بدل الانخراط الكلي في التبعية التي انغمسنا فيها منذ عصر النهضة إلى الآن.
إن أي شكل من التبعية لأي دولة كيفما كان نوعها لا يمكنه إلا أن يحرمها من بناء ذاتها. وتقدم لنا الصين المثال الأنصع على ذلك. لقد قفزت في بضعة عقود من دولة هشة وضعيفة إلى دولة تفرض نفسها على العالم بكلمة سر واحدة: الاعتماد على الذات. لا يعني الاعتماد على الذات الانغلاق عليها، وعدم الانفتاح على الخارج، بل إن أي انفتاح حقيقي لا يتحقق إلا من خلال انغلاق مبني على الانفتاح. أما حين يكون انفتاحنا بدون تأسيس للذات، فليس سوى انغلاق أبدي يرهننا بالخارج، الذي نعول عليه في كل شيء يتعلق بتدبير شؤوننا الخاصة.
حتّم فيروس كورونا، الآن، على كل الدول والشعوب الانغلاق على نفسها، فجعل كلا منهما ترى نفسها، ربما لأول مرة، في مرآتها الذاتية والحقيقية، فتبينت لها أوجه الزيف والنفاق. صار كل منها يواجه مصيبته معتمدا على ذاته؟ أو منتظرا من يتعاطف أو يتراحم أو يتوادّ معه؟ منذ أن فرض الحجر الصحي في المغرب (16 مارس/ آذار)، بدأت تأخذ ملامح صورة تكرست منذ الاستقلال أبعادا أخرى، وأبانت للجميع أن الارتهان إلى التبعية للغرب في التخطيط للمصائر، وتدبير الشؤون قبضُ ريح. لم تسلمنا التبعية إلا إلى الشقاق بين مختلف المكونات، وإلى انعدام الثقة في أنفسنا. وأوهمتنا أننا لكي «نتقدم» علينا الدوران في فلك الآخر. فكانت النتيجة المزيد من التراجع والتخلف، والصراع والاختلاف.
يعني فتحُ قاعة الدرس للتكوين والبحث العلمي الانخراطَ في مختبرات ومراكز للاختراع والإبداع، وليس فقط لممارسة حرفة.الاعتماد على الذات تحرير لنا من التبعية، ومحفز قوي لاستعادة الثقة
لقد جعلنا هذا الانغلاق الكوروني ننتبه إلى أن السلطة المغربية، يمكن أن تكون في خدمة الشعب، وتسهر على سلامته وأمنه، وأن الطبيب والباحث يمكنهما أن يسهرا على علاج الجسد المغربي، ويفكرا في اختراع أدوات الوقاية ولقاحات العلاج. وأن الأستاذ والمعلم يمكنهما أن يقوما بدورهما، في ظروف قاسية، في تكوين الفرد وتمكينه من العدة التي تؤهله ليكون إنسانا ومواطنا. وأن الشعب قادر على استعادة قيمه الأصيلة والذاتية في التوادّ والتراحم والتعاطف.
تكرس في المتخيل الشعبي والعام أن السلطة والإدارة، في أزمنة الانفتاح، لم تكن إلا للقمع، والاعتقال، وممارسة العسف، وتعطيل مصالح المواطنين، وتزييف الانتخابات، فأبانت لحظة «الانغلاق» أنها أرأف على شعبها، من الأم على ولدها، وأنها أحرص على سلامة الفرد من نفسه، وتمارس ذلك بتفان ونكران للذات. كان المغربي، وقد صار الطب تجارة مربحة، يدعو لك بقوله: «الله ينجيك من الطبيب»، بدل أن يدعو لك بأن ينجيك من المرض، لأنه اكتوى بنار أسعار الفحص، والإلحاح على إنجاز التحاليل المكلفة، وعلى تقديم شيك قبل العلاج، وعلى أن يربطك به مدى الحياة، وأن التعاضديات لإثراء أعضائها. فظهر أن الطبيب والممرض، في هذه اللحظة ، يشتغلان بلا كلل ولا ملل مضحين بروحيهما من أجل إنقاذ أرواح المصابين، وأن المختبرات المغربية يمكن أن تكون لها مخرجات إيجابية تؤكد على أن الطاقات المغربية، سواء في الداخل أو في المهجر، لا تنقصها الخبرة ولا الذكاء، وأنها لو تم الاعتماد عليها، وتمكينها من الوسائل لحققت المعجزات. كان المعلم يجلد من قبل التلاميذ وأمام أعينهم، فبدا ذليلا مهانا، لإبراز أن التعليم العمومي لا قيمة له، وعلى الدولة أن تنفض يدها منه لفائدة التجار. وأن الشعب مؤهل للتضامن والتعاضد.
إن دعاة الانفتاح، ومناصري التبعية، ضد الاعتماد على الذات، هم الذين ظلوا يكافحون من أجل خصخصة الصحة والتعليم، لأنهم يُعالَجون في الخارج، ويدفعون أولادهم للدراسة في الخارج، بهدف البقاء فيه، والحصول على جنسياته، ويهربون الأموال للعيش هناك.
يعني الاعتماد على الذات التخطيط لبناء قاعة درس لا زنزانة، وبناء مستشفى لا الترخيص لأي مصحة. يعني الاعتماد على الذات تكوين المواطن القوي، لا تركه ضعيفا ونهبا للإرهاب والمخدرات والاكتئاب وانعدام الأمن اليومي.
يعني فتحُ قاعة الدرس للتكوين والبحث العلمي الانخراطَ في مختبرات ومراكز للاختراع والإبداع، وليس فقط لممارسة حرفة.الاعتماد على الذات تحرير لنا من التبعية، ومحفز قوي لاستعادة الثقة، وبناء الوطن.
٭ كاتب مغربي
صحيح استادي العزيز ان التعليم والصحة والامن اهم مايميز الامم العظيمة وان امة تعتمد على ابناءها لن تقهرها لا جائحة كورونا ولاتقلبات الازمنة المزمنة شكرا استادي
و مع ذلك يا أستاذي الفاضل ، بعد كورونا ستعود حليمة إلى عادتها القديمة .
و لكنك قلت ما يجب قوله ، و فوق طاقتك لا تلام.
صدقت استاذ سعيد ” ما حك جلدك مثل ظفرك” .سيكون لهذا الوباء تداعيات اجتماعية واقتصادية وثقافية بالغة الأهمية.
تحليل أكثر من رائع لأستاذنا الجليل سعيد يقطين بارك الله فيه. لقد وضعت يا أستاذ الأصبع على الجرح وشخصت الداء المتمثل في الاعتماد على الغير وإهمال القدرات والقوة الكامنة في المحتمع. ولكن في بعض الأحيان تكون النعمة في طي النقمة ونجني بعض النفع من الضرر. من ذلك ظهور المعدن الحقيقي لبعض البشر في ساعة الشدة. وتفتح أعين الناس على مظاهر كانت تمر أمامهم دون أن يروها أو يهتموا بها وعلى معاناة بعض أصحاب المهن التي لم يكن يلتفت إليهم إلا القليل… ولكن في مقابل هذه النماذج المضيئة التي تبعث على الأمل الذي يشع من مقالكم هناك مع الأسف نماذج خدشت جمال الصورة منها من أشرتم إليه بين السطور “بالتجار” وهم الذين لم يشبعوا من استنزاف جيوب أولياء التلاميذ والآن يطالبونهم بدون أن يرف لهم جفن بأداء ثمن خدمة لم يقوموا بها أصلاً منذ توقف الدراسة بل منهم من طمع في الاستفادة من صندوق الإعانة المخصص للطبقات الهشة…وأقول “منهم” تجنباً للتعميم وظلم البعض منهم. هذه إذن فرصة الدولة لإعادة النظر في حمى “خصخصة الصحة والتعليم” وإعادة الاعتبار للمدرسة العمومية. حياكم الله وسدد خطاكم.
تحياتي استاذ سعيد .
بالفعل هذا الحصار الكروني..ابان عن معادن الناس ..وصحح كثيرا من المفاهيم..وابان ايضا على اننا شعب في مستوى المسؤولية .
يااستاذ لاادرى والله انت مع العفو تشخص مرض كورونا الحكم في بلداننا العربية او انت مع العفو تشخص وباء كورونا . نعم مااشار اليه مقالك ان وباء الانظمة اعظم واشد لانها تطبق طبخات جاهزة تاتى من فرنسا خصوصا وباقى الدول التى لاتمد للعرب بصلة لدينا مايكفينا من الهموم وما وباء كورونا الا كاشفا لها او زاد من كشفها شكرا استاذ.
الجمهوري/اللبناني (جلبير الأشقر) نشر عنوان (بين قانون الغاب والشمولية) بينما الملكي/المغربي (سعيد يقطين) نشر عنوان (كورونا: الاعتماد على الذات) في سياق فشل/فساد/تقصير موظف النظام البيروقراطي في دولهم، في مجابهة فيروس كورونا، بشكل عملي حتى الآن، في نفس عدد جريدة القدس العربي التي تصدر في لندن، فأيهم كان تقييمه وتحليله أقرب إلى واقع العولمة والإقتصاد الرقمي (الإليكتروني) في ما شاهده كل منهما في دولته، والأهم هو لماذا؟!
لكل رأي هناك شيء من المصداقية وفق زاوية الرؤية، فمثلاً في الأمس نشرت تعليق، لتوافق زاوية الرؤية من وجهة نظري عبقرية اللاجئ/المهاجر (علي حسن الفواز) يلخصها للمرة الثانية ما ورد تحت عنوان (تعرية النسق الثقافي في حرب كورونا) تماماً في رأيي بمغ ورد تحت عنوان (كورونا وموت اللغة) والأهم هو لماذا هذه عبقرية من وجهة نظري على الأقل؟!
في البداية من حق المؤلف، فهم هذا العنوان، بالطريقة أو التأويل التي عبّر عنها بلغته، تحت العنوان.
ومن حقي تأويل العنوان، من أن أي لغة تمثل الدولة الوطنية، وفق محدّدات سايكس وبيكو، على أنقاض الدولة العثمانية التي فيها كانت الأسرة والمهنة، فلذلك ليس فيها (البدون) بل فيها (المنسي)، أسس التدوين في النظام المالي، لتمويل ميزانية الدولة،
بينما في دولة الحداثة والتي فيها أصبح الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية كالآلة، بلا حقوق بسبب قانون التأميم بحجج وتأويلات وطنية أو أمنية،
ولكنها في الحقيقة ثقافة الأنا التي لا تعترف حتى بوجود ثقافة الآخر،
لكي يكون له أي حقوق، يمكن بتدوينها بلغة الدولة كعقد بين الأنا (الرجل) والآخر (المرأة) كأسرة إنسانية، زاد الطين بلّة قانون باراك أوباما الأمريكي لتغيير معنى الأسرة في لغة الدولة،
لتحويلها إلى يتوافق في علاقة ما بين ثقافة الأنا مع ثقافة الأنا، ولا يهم الأنا هنا رجل، أو مرأة، أو حيوان، أو حتى آلة (روبوت)، فهل هناك معنى آخر لمفهوم الفوضى الخلاقة تحت عنوان الديمقراطية، سبحان الله؟!??
??????
هذا هو الواقع في المغرب زمن الكورونا، كما صورته في المقال يا أستاذ سعيد . الدولة المغربية صارت أرحم على المواطنين الذين أصبحوا متفقين على صواب قراراتها وتدابيرها في مواجهة الجائحة. تغيير إيجابي كبير في ممارسات رجال السلطة وقوى الأمن لتوعية المواطنين و مراعاة ظروفهم وحقوقهم مع ملاحظة تخص المرأة التي تضطلع بمسؤولياتها في هذا المجال بكامل الشجاعة و الريادة و الحكامة. عسى أن لا تعود حليمة إلى عادتها القديمة و ندخل بعد معركة الكورونا في مرحلة جديدة لمغرب التطور السيوسيو اقتصادي و تطوير منظومة و آليات حقوق الإنسان نحو الأفضل.
المتعلق بمصادرة اسبانيا لشحنة أدوية موجهة للمغرب والممنشور في القدس العربي دليل ملموس على صحة ووجاهة نداء الدكتور سعيد يقطين بضرورة الاعتماد على النفس وإلا سنبقى رهينة الأمزجة المتقلبة للمزودين والموردين…
الخبر المتعلق…الخ