كورونا… السلالة الجديدة بين التهوين والتهويل

مع أخبار ريادة المملكة المتحدة باعتبارها أول دولة تبدأ حملة التطعيم ضد فيروس كورونا المستجد، تنفس العالم الصعداء، وابتدأ عامل التفاؤل يلعب دورا إيجابيا في نفوس البشرية، التي اعتبرت قدوم العام الجديد فاتحة خير ستضع نهاية لعام من الجائحة والانغلاق والعزل والمعاناة، وانهيار الاقتصاد، لكن الخبر الصاعق جاء من الدولة نفسها، من بريطانيا التي أعلنت اتخاذها إجراءات المسار الرابع من الإغلاق والعزل، نتيجة تفشي الموجة الثالثة من الفيروس الذي تحور وأنتج سلالة جديدة، لتبدأ الأسئلة المحيرة، التي لا جواب لها حتى الآن، مثل هل ما نتج عن التحوير هو فيروس جديد؟ بمعنى هل نحن مقبلون على وباء جديد؟ وإذا كانت التصريحات الرسمية تتحدث عن طفرات جينية في الفيروس، فهل سيؤثر ذلك في فعالية اللقاح الذي تم التوصل له حتى الآن؟ وهل سنبدأ من الصفر مرة أخرى؟
التعاطي مع السلالة الجديدة انقسم بين مسارين، مسار متفائل يدعي أن ما حصل مجرد تغير طفيف في السلسلة الجينية للفيروس، ولن يؤثر ذلك في الإجراءات المتخذة، أما أتباع المسار المتشائم في التعاطي مع السلالة الجديدة من الفيروس، فقد ذكروا أن الأمر بات مرعبا، وإن الإنسانية مقبلة على إغلاق عام أشبه وربما أقسى من الإغلاق الذي شهده العالم مطلع عام 2019، أي إننا أزاء وباء جديد بمعنى الكلمة.

حالة التغير المستمر هي الحالة الطبيعية في الفيروسات، وربما كان المثال الأوضح هو الفيروس المسبب للانفلونزا، الذي يتغير باستمرار

ولنفهم ما حصل بدقة وموضوعية، لابد من أن نطلع على ما يقوله المختصون، إذ تشرح الدكتورة ندى محمد الباحثة في علوم الأحياء في جامعة أكسفورد البريطانية، في مقال لها ما حصل فتقول «إن مئات الطفرات في فيروس كوفيد – 19 تم التعرف إليها ورصدها، منذ بدء ظهور الوباء حتى اللحظة، ولكنّ أيا منها لم يكن له تأثير كبير في مجرى الوباء أو جعله أكثر خطورة». وتشير الدكتورة ندى إلى أن الفيروس الذي انتشر في أوروبا ليس هو الفيروس ذاته الذي انطلق من مدينة ووهان في الصين، وتضيف «هذه المرة الملاحظة الأولى أتت من جنوب شرق بريطانيا، حيث لفت انتباه العلماء انتشار متحور مستجد بين المصابين في مناطق تشهد ارتفاعاً سريعاً في عدد الإصابات». تحليل الحمض النووي للسلالة الجديدة للفيروس، الذي تم عزله من المصابين في بريطانيا، كشف عن فيروس متحور جديد أطلق عليه اسم (B.1.1.7) وهو فيروس مختلف عن المتحورات السائدة، اللافت في الأمر هذه المرة هو حدوث عدد كبير من الطفرات، بحيث توجد نسبة عالية منها (14 طفرة، و3 حذوفات) في بروتين غلاف الفيروس الذي يحميه، وفي عدد وشكل النتوءات البارزة من غلاف الفيروس. وتشير الدكتورة لوسي فان دورب أستاذة علم الجينات في جامعة لندن كوليدج إلى «أن أكثر شيء يثير المخاوف في ما يتعلق بطفرات الفيروسات هو تلك الطفرة التي تحدث لجينات مستقبلات الخلايا في الفيروس، التي تتحكم في التحام الفيروس بالخلايا، وبالتالي قدرته على حقن شريطه الجيني داخلها وتجنيدها لإنتاج حمضه النووي بدلا عن مهمتها الأساسية وهي إنتاج الحمض النووي للجسد». يذكر علماء المناعة والأحياء المجهرية، أن حالة التغير المستمر هي الحالة الطبيعة في الفيروسات، وربما كان المثال الأوضح هو الفيروس المسبب للانفلونزا، الذي يتغير باستمرار، لذلك يغير الأطباء وعلماء المناعة من تركيبة اللقاح الذي يعرف بـ(جاب) كل سنة ليكون ملائما للتعاطي مع تغيرات الفيروس المستمرة، إذن لماذا أصاب العالم الهلع هذه المرة، مع العلم أن المؤسسات الصحية شهدت تغيرات عديدة لفيروس كوفيد 19، وإنها كانت تتوقع حدوث التغيير؟ وتشير التقارير البريطانية الرسمية إلى أن اكتشاف السلالة الجديدة لأول مرة تم في سبتمبر/ أيلول الماضي، وبحلول نوفمبر/ تشرين الثاني كان عدد الإصابات قد وصل إلى رُبع عدد المصابين في لندن، قبل أن تصل هذه النسبة إلى الثلثين منتصف ديسمبر/ كانون الأول. وقد كتب أيان سامبل محرر الشؤون العلمية في صحيفة «الأوبزرفر» «السلالة الجديدة من الفيروس التي تنتشر في جنوب شرق إنجلترا تسببت بنحو 1200 إصابة خلال خمسة أيام» لذلك طُرح سؤال مفاده، هل هذا أمر يجب أن نقلق بشأنه؟ الإجابة كانت غائمة وغير واضحة، إذ إنه من المبكر لأوانه تقديم أي نظريات حول مدى فتك السلالة الجديدة التي نتجت عن طفرة في الفيروس، لكن لو صحت نظرية أن السلالة الجديدة من الفيروس تنتشر بشكل أسرع فسيكون من الصعب السيطرة عليها، لكن يجب منح الباحثين بعض الوقت لتقديم إجابات دقيقة.
اتهامات حيوان جديد ظهرت مع ظهور السلالة الجديدة، وكما اتهم الخفاش باعتباره الحاضن الذي انتقل الفيروس منه إلى البشر في الصين في الموجة الأولى، اتهم حيوان المنك هذه المرة باحتضان الفيروس الجديد، بعد أن أحدث مجموعة طفرات جينية وتطور عن سلسلته السابقة. وحيوان المنك هو نوع من الثدييات من عائلة (ابن عرس) وهو حيوان يربى في عدد من الدول في مزارع خاصة، للحصول على فرائه الثمين، ومن أشهر الدول التي يربى فيها الدنمارك وهولندا. وقد أشار تقرير لهيئة سلامة الغذاء الأوروبية إلى إن «خطر انتشار السلالة الجديدة من الفيروس عبر الحدود من خلال الحيوانات ومنتجاتها، ضئيل جداً، لكن من المهم أن يتجنب الناس الاتصال القريب مع حيوان المنك في المزارع». هذا التقرير أثار هلعا في الدنمارك خصوصا، بعد إصابة أكثر من 200 شخص بالسلالة الجديدة للفيروس، ما حدا بالحكومة الدنماركية إلى إعدام حوالي 17 مليونا من حيوان المنك، كما أشارت تصريحات منظمة الصحة العالمية إلى أن التقارير الدنماركية مثيرة للقلق، لكن سرعان ما ظهر خطأ الإجراءات الحكومية الدنماركية، التي تسرعت وقتلت ملايين المنك، لذلك صرح وزير الغذاء والزراعة الدنماركي موغنس ينسن، في معرض تعليقه على القرار القاضي بإعدام ما يقدر بحوالي 17 مليون حيوان منك: «ارتكبنا خطأ». واعترف الوزير بأن القرار الحكومي لم يكن يعتمد على أي أرضية قانونية، ولم تكن السلطات مخولة بطلب القضاء على الحيوانات في المزارع الخاصة بتربية المنك، التي لم تسجل إصابات بطفرة كورونا الجديدة فيها. وقال الدكتور دافيد روبرتسون أستاذ علم الفيروسات في جامعة غلاسكو وعضو لجنة (كوغ) البريطانية التي حللت جينات السلالة الجديدة «إن الفكرة السائدة حاليا هي أن السلالة الجديدة جاءت نتيجة الطفرات التراكمية، التي تمت في اتجاه الإصابة المزمنة». وأضاف أن «وجود رابط بين السلالة الجديدة والطفرة في حيوانات المنك يعد احتمالية بعيدة، لأنه لا توجد أدلة على أن المنك، أو أي حيوانات أخرى قد تكون مرتبطة بهذه السلالة». من جانبها كشفت التقارير البريطانية أن أكثر التفسيرات احتمالا يقول، إن السلالة الجديدة تخلّقت في رئة مريض يعاني ضعفًا في جهاز المناعة تركَه عاجزًا أمام فيروس كورونا، الذي وجد بدوره في رئة هذا المريض مستعمرة مواتية للتحوّر.
وجاء تصريح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون صاعقا عندما قال في مؤتمره الصحافي «إن السلالة الجديدة من فيروس كورونا خرجت عن السيطرة» لذلك توجب إعلان المسار الرابع من إجراءات العزل المشددة في بعض مناطق المملكة المتحدة، بينما صرح وزير الصحة البريطاني مات هانكوك واصفا الوضع الصحي الصعب للمملكة في ظل الموجة الثالثة للجائحة بقوله «إن الإغلاق المشدد الذي يشمل العاصمة لندن بسبب السلالة الجديدة من فيروس كورونا، قد يستمر لعدة أشهر». هذه التصريحات أثارت موجة من التشاؤم التي أوحت بأننا لن نتمكن من الخروج منها حتى تظهر النتائج المشجعة لحملات التطعيم، التي شملت نصف مليون شخص في بريطانيا حتى الآن. ليبقى هنالك أمل أن العام المقبل سيكون عام الخلاص من الجائحة.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    شكراً للتقرير القيم!
    ألا يُعتبر ما جرى في الكون غضب من الرب؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول سؤال للاستبداد:

    “ايحسب ان لن يقدر عليه احد؟”

إشترك في قائمتنا البريدية