كورونا بين الغضب والانتقام

أنا ممن هم شديدو الإيمان بغضب الآلهة، لكن شتان بين الغضب والانتقام. تقرأ في ملحمة «جلجامش، «انزعجت الآلهة من ضجيجهم الذي حرمها النوم، فأرسلت عليهم الوباء، لكن سرعان ما تكاثرت أعدادهم مرة أخرى وازداد ضجيجهم، فأرسلت عليهم القحط ست سنوات، ثم الطوفان الأعظم سبعة أيام. لقد بلغ من هول الطوفان أن الآلهة ذُعرت هي الأخرى وابتعدت إلي الخلف كثيرا في السماء». وهكذا دفع الجميع ثمن الغضب، ولم يدفع فريق واحد فقط، وهو الأعلى صوتا.
تقرأ مأساة أوديب لترى كيف تحققت نبوءة عرافة معبد أبوللو، التي أنذرت لايوس حاكم طيبة بأن ابنه سيقتله، ما جعله يعطيه لراعي يقتله ويلقي به في الغابة، لكن هذا الشخص لم يقتله. قيد قدميه وتركه في الغابة ليعثر عليه راع من بلد بعيد يأخذه ويتربى في بيت ملكها، الذي لم ينجب، وحين يكبر يعرف أنه ليس ابنه، فيترك المكان باحثا عن أصله ليقابل لايوس ملك طيبة في الغابة يعترض طريقه، فيقتل الملك الذي هو أباه. يدخل المدينة يجد على بابها عملاقا يقتل كل من يعجز عن الإجابة عن سؤاله عن ما الذي يبدأ على أربع ثم اثنين ثم ثلاثة. رغم سهولة السؤال فلا أحد يعرف ويقتل العملاق «أبو الهول» من لا يعرف، لكن أوديب يجيب بأنه الإنسان يبدأ طفلا يزحف ثم شابا يمشي على قدمين ثم عجوزا يتوكأ على عصا. تحتفي به المدينة التي عرفت بمقتل حاكمها فتزوجه زوجة الحاكم التي هي أمه «جوكاستا» وبعد سنين كان أنجب منها أربعة أبناء يعم المدينة الوباء، ويعرف أوديب أن الوباء لأن البلاد تنام على خطيئة. يعرف من تيريزياس عراف معبد أبوللو أنه هو الخطيئة، إذ قتل أباه وتزوج أمه. فيترك المدينة ويفقأ عينيه ويمشي هائما في الصحارى.
خطيئة قوم عاد وقوم لوط، وغيرها من الخطايا والأوبئة التي حصدت الناس، تراث إنساني تصدقه أو أصدقه أنا، رغم أنه لا أثر منقوش عليه، لأن معناه البليغ هو الحياة وأهمية أن تكون بلا خطايا. خطايا وليس أخطاء من فضلك فالأخطاء قد تضر صاحبها نفسه، من البداية وضررها محدود، أما الخطايا فالإنسان على طول التاريخ الأسطوري والحقيقي يزهو بها رغم انها سبب ضياع العباد والبلاد. أكتب ذلك بمناسبة ما يتراكم على صفحات الميديا اليوم من أن ما يحدث هو انتقام من الله لفريق يراه البعض مظلوما دون فريق، ولا يري أحد أن الوباء لا يفرق بين ظالم ومظلوم، بل لعل الظالم تكون لديه فرصة النجاة أكثر، لأنه في موقع اجتماعي واقتصادي كبير حاكما أو محكوما يسهّل له الحجز بعيدا حتي عن المستشفيات العامة، ويسهّل له الأطباء والعلاج لا يدفع فيه قرشا واحدا. قيل في البداية إن ما جرى في الصين رد من الله علي ما فعلوه في أقليم الأيغور ضد المسلمين، والوباء انتشر من مدينة ووهان إلى كل مكان ولم يفرق بين مسلم وبوذي. خرج من الصين إلى إيران الشيعة الذين يرون أنهم على حق، ويظلون يلطمون لمقتل الحسين بن علي، رغم مرور آلاف السنين، فرأى فيه البعض أنه عقاب لهم على تحريفهم للإسلام السني، وسبهم للصحابة. انتقل الفيروس إلى المملكة العربية السعودية بيت السنة، وأغلقوا بيت الله الحرام وأوقفوا الحج والعمرة، وانتقل إلى كل دول الخليج ومصر بلد الأزهر الذي بناه الفاطميون الشيعة، وصار للسنة بعد ذلك. هكذا لم يفرق الوباء بين الشيعة والسنة، وقال البعض إنه انتقام مما جرى للإخوان المسلمين، وأن تركيا في نجاة منه فانتقل إلى تركيا. ذهب إلى إيطاليا وقال بعض البلهاء إنها بلد الفاتيكان، كأنه لا يكفيهم كل المسلمين الذين يموتون في العالم العربي، وكأن مسلمي إيطاليا في نجاة.

في النهاية، ورغم أنني أعرف أن كل قصص التراث أسطورية، فإن معناها الإنساني والإيمان به مريح، فالخطايا تأتي بغضب الآلهة الذي لا يفرق ويكنس الأرض بمن عليها خطاة وضحايا.

لقد انتقل إلى فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهي الدول التي قامت بينها الحروب قديما بسبب المذاهب المسيحية المختلفة. ثم أمريكا وكندا، وانتقل إلى أمريكا اللاتينية ولا ينتقي في أي بلد فريقا دون فريق. هل هو غضب أم انتقام؟ أعرف أنه علميا وباء سببه فيروس ذو خلية واحدة لم يعرفه الناس بهذه القوة أبدا من قبل، ولعله كان موجودا في صورة الأنفلونزا، التي يشفى منها البعض ولا يشفى القليل منها، لكنه عُرف متأخرا، بعد أن قامت الصين بحجب أي معلومات عنه حتى انتشر، لكن السؤال رغم حجب الصين لهذه المعلومات، كيف انتقل إلى صينيين قلائل يعملون ويقيمون في بلد من البلاد التي أشرت إليها، ولم يحدث أن كانوا في الصين لشهور أو لعام قبل انتشار الوباء في الصين. كل الحكام الآن في كل العالم، سواء رأيتهم ظلمة وقتلة وديكتاتوريين، أو رأيتهم مصلحين وإنسانيين في أحاديثهم يرجون الله أن يرفع غضبه عن بلادهم. لا يدور في ذهن أي منهم أنهم أصل لأي خطأ. أقول خطأ فما بالك بالخطيئة. في الدول الديمقراطية لديهم السبب، إنهم جاءوا بالانتخاب ويمكن تغييرهم، وفي الدول الشمولية الديكتاتورية، لأنهم، وإن لم يعلنوا ذلك، مقتنعون بما يقوله عنهم أئمة المساجد من أنهم من اختيار الله وفضله علي الشعوب، التي يجب أن تحمد الله عليهم وطاعتهم من طاعة الله. مواجهة كورونا رغم ذلك متواصلة في الدول القادرة، بمحاولة الوصول إلي عقار ينجيهم وينجي البشرية من هذا الفيروس اللعين. في الدول الأقل قدرة، بمحاولة إرشاد الناس إلى طرق الوقاية وضرورة الالتزام بها، وعزل الحالات التي تظهر، ومحاولة إشفاء أصحابها. الحقيقة أن هذا الوباء يجب أن لا يُدرَج أبدا في قائمة الانتقام الإلهي، لأن الظلم في العالم ليس ابن اليوم فقط، ولأنه لا ينتقي الظالمين، وكما أوضحت هم الأكثر فرصة للشفاء منه لو أصابهم. الأهم الآن أن نرى العلم وكيف يصل إلى علاج واق إلى الأبد، من كل تحولات شكل هذا الفيروس. أمر سيستغرق شهورا كما أجمعت كل الدوائر العلمية، لكنه سيحدث. وبعيدا عن ذلك وعن تلك الشماتة الساذجة، التي هي بنت ثقافة التخلف، فمن ينتظرون تغييرا كبيرا في العالم ونظامه السياسي واهمون. الاشتراكية والتوجه إليها لن يستمر في الدول الرأسمالية التي لن تستغني بسهولة عن توحشها، وكل ما يحدث من تأميم أو محاولة التأميم للمستشفيات الخاصة، هو في مواجهة الخطر، لكن ليس طريقا جديدا، خاصة إذا عرفنا أن العلاج في معظم، إن لم يكن كل الدول الأوروبية بالمجان. لم يأت ذلك بناء علي حكم اشتراكي، لكن بعد نضال اجتماعي لنقابات وأحزاب حققت فيه مكاسب للشعب أكثر مما حققته الشيوعية يوما ما في روسيا.
وفي النهاية، ورغم أنني أعرف أن كل قصص التراث أسطورية، فإن معناها الإنساني والإيمان به مريح، فالخطايا تأتي بغضب الآلهة الذي لا يفرق ويكنس الأرض بمن عليها خطاة وضحايا. فلنضع كورونا في خانة الخطأ، ونتذكر أيضا أنه قد ضاق صدر الآلهة بفعل الإنسان في كل مكان وزمان، وليس بفعل فريق معين منهم. لن يتوقف الإنسان عن الخطأ مهما بدا أمامك يرمم من أخطائه وستعود الأوبئة. وعلينا في عالمنا العربي والإسلامي أن تعي حكوماته وحكامه الدرس من أن العلم والثقافة والصحة هي الأولى بالرعايا، وليست الحروب المذهبية ولا قتل المعارضة وشراء أسلحة لمحاربة الوهم.

٭ روائي من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فارس:

    قال الله تعالى:”واثقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلمو منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب )25(“…الأنفال

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية