في مثل هذا الوقت من العام الماضي كان العمل على تطوير خط الترام، الذي خُطط له أن يمتد بين مدينتي جنيف السويسرية ومدينة أنيمياس الحدودية الفرنسية، يسير بشكل متواصل. ترتب على هذا المشروع الذي أدى لإغلاق كثير من الممرات الحيوية ـ تضرر الآلاف من السكان، الذين اضطروا لأن يسلكوا طوال فترة إشغال الطريق طرقاً ملتوية، من أجل الوصول إلى وجهاتهم، أما الضرر الأكبر فكان من نصيب أصحاب المحلات التجارية والمطاعم، الذين فقدوا الكثير من زبائنهم بعد أن أصبح الدخول إلى محالهم أمرا يكتنفه الكثير من التعقيد.
أحد المواطنين كان يدير مطعماً عربياً على الحدود بين البلدين، وقد ساعده موقعه على كسب أعداد كبيرة من الزبائن. بدأ هذا المواطن كغيره بالتأثر مع اقتراب أعمال الإشغال من منطقته، حتى أنه أحس بأنه لن يملك سوى التوقف تمامًا عن العمل، بعد أن يفقد أصحاب المركبات القدرة على الوصول إليه، فمع وجود خيارات أخرى في المكان، فإن مطعمه لن يكون محبذاً إلا لعدد قليل من زبائنه، ممن سيتحملون إيقاف سياراتهم بعيداً والقدوم إليه راجلين. الذي حدث هو أن البلدية تواصلت مع صاحب هذا المطعم لتبلغه، أن العمل سوف يستمر لبضعة أشهر، ولكنها سوف تقوم، خلال هذه الفترة، بالتكفل بتعويض خسارته بدفع متوسط المبلغ الذي كان يكسبه في الأشهر المعتادة.
المواطن الذي يؤدي دوره كاملاً ينتظر من الدولة أن تبادله الفعل ذاته، وأن تؤدي دورها نحوه حينما يحتاج إليها
هذه القصة الرمزية هي مجرد مثال على العلاقة بين المواطن والدولة في معظم النظم الغربية. المواطن الذي يؤدي دوره كاملاً ينتظر من الدولة أن تبادله الفعل ذاته، وأن تؤدي دورها نحوه حينما يحتاج إليها. هذا ليس فقط في حالة وجود كارثة كبرى، أو جائحة كجائحة كورونا الحالية، بل في كل حالات الضعف التي يمكن أن تمرّ على الناس. من أجل هذا يدفع المواطنون بطيب نفس ضرائبهم، ونفقات المساهمة الاجتماعية الأخرى، التي تصل في بعض الأحيان لما يتجاوز ثلث أو نصف مداخيلهم، فهم يعلمون أن أموالهم ليست ضائعة، وأنها ستعود إليهم بشكل أو بآخر. بهذه المساهمات الاجتماعية التي يتم خصمها بشكل إلزامي، فإن المواطن سيجد سنداً حين يفقد تجارته، كما سيجد مصدر دخل في حالة خسارته لوظيفته، حتى حصوله على عمل جديد، أما بعد سن المعاش، فإن هذه المساهمات التي ظل يدفعها طوال حياته النشيطة سوف تعود إليه مجدداً بشكل راتب مجزٍ، يتيح له حياة كريمة ومريحة. لهذا، وللمفارقة، فإن المطالبات الأوروبية تدور حول تخفيض سن المعاش، فهم يحلمون، خاصة مع زيادة معدلات الأعمار بفضل التقدم الصحي، بالتوقف عن العمل باكراً والاستمتاع بالحياة بلا أعباء، وذلك طبعاً بعكس الحال في أغلب دول الجنوب، التي يعتبر التوقف عن العمل فيها كارثة مالية وكابوساً عائلياً، ما يجعل رب الأسرة يحاول مواصلة العمل ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، حتى بعد وصوله السن القانونية للمعاش. أكثر من ذلك فإننا نجد أن مسؤولية الدولة الراشدة تتجاوز مجرد المكافأة، على سداد المساهمات الاجتماعية، إلى الكفالة التي تنسحب على جميع الشرائح الضعيفة، كما ظهر في الالتزام الحكومي بنقل المشردين إلى مآوى لائقة، وفي بعض الحالات إلى فنادق، وقاية لهم من المرض، وحماية للمجتمع من أي تفلت ناتج عن فقد هؤلاء لمساعدات المحسنين. يجب وضع هذه الخلفية في الاعتبار، حين تتم مناقشة الفروق في التدابير الصحية، بين ما يمكن تسميته بدول الشمال، ودول الجنوب، سواء في ما يتعلق بالتعامل مع الكوارث بشكل عام أو مع الجائحة الحالية بشكل خاص.
كغيرها من دول العالم، ترددت الدول الأوروبية في الإعلان عن الفيروس كخطر حقيقي ومهدد صحي فعلي، وهو ما جعله يتوغل بشكل قاسٍ في عدد كبير منها. أحد أسباب هذه التردد، الذي استمر لأسابيع قليلة لكن كافية لتحول الأمر إلى وباء خطير، كانت الآثار الاقتصادية والتبعات التي ستجد الدولة نفسها مجبرة على تحملها، بعد الإعلان عن الأمر ككارثة قومية. كان الجميع يتفقون على أن من واجب الدولة، أو بشكل أخص الحكومات، حماية مواطنيها من كل الأخطار وعلى رأسها ما يهدد حياتهم. من السهل إغلاق البلدان وإلزام الناس بالبقاء في بيوتهم، إذا كان بالإمكان الاستجابة إلى أسئلتهم المشروعة، التي من أهمها ضرورة عدم تأثر مصادر دخلهم، سواء كانوا مرتبطين بعمل خاص أو وظيفة عامة، وهذا هو ما سعت هذه البلدان لتطمين المواطنين بشأنه، قبل إلزامهم بالإغلاق، فهذا هو وقت وقوف الدولة مع أبنائها. هذا التحمل المفاجئ لهذا العبء الاقتصادي غير المتوقع، سبّب الإرباك الذي لمسناه في تعامل الدول الأوروبية مع الحدث، فقد كان أمام هذه الدول واجبان: واجب تجاه سكانها، وواجب تجاه بعضها بعضا، حماية لوجود الاتحاد الأوروبي كمظلة عمل وتعاون مشترك. ورغم ما بدا فشلاً في التعامل مع الأزمة في بداياتها، وتلكؤا في مساعدة الجيران بالتركيز على الأزمة الوطنية، إلا أن الملاحظ هو أن الدول الأوروبية، ما لبثت أن بدأت في استعادة روح تضامنها الداخلي، وثقتها بنفسها وهو ما ظهر في الاعتذار الذي تم تقديمه لإيطاليا، والموافقة على ضخ المليارات من اليوروات في البنك المركزي الأوروبي، لتخصص لمساعدة الحلفاء، ومنحهم الموارد الكافية لحماية اقتصادهم من الانهيار.
في المقابل، فإن الوضع لدى بلدان الجنوب كان أكثر ارتباكاً، فرغم ورود الأنباء التي تشرح خطر هذا الفيروس والوضع المأساوي الذي كانت تعيشه ووهان الصينية في بداية الانتشار، إلا أن هذه البلدان لم تقم وعلى مدى أسابيع طويلة بتفعيل الأساسي من حُزم الإجراءات الوقائية، في حين اكتفى معظم قادتها وسياسييها، ولأسباب ليست في غالبها موضوعية، أو متعلقة بالصحة العامة، بتطمين السكان بالقول إن هذا الفيروس ما يزال بعيداً، أو بإطلاق تلك الشائعة التي ما يزال البعض يرددها، وهي أنه لا يعيش في الأجواء الحارة. لا يمكن تقسيم الدول بين شمال وجنوب بشكل حاسم، فقد رأينا كيف تعاملت الولايات المتحدة، وهي أهم دول الشمال مع انتشار الفيروس، حيث أضاعت النقاشات الفلسفية والسياسية، حول إمكانية وحدود تدخل الدولة، وهي الفكرة المتعارضة مع أسس الاقتصاد الأمريكي، وقتاً ثميناً جعل البلاد تتحول إلى إحدى أكبر البؤر العالمية لانتشار المرض. رغم ذلك فإن بإمكاننا أن نلاحظ أن ما يطلق عليها دول الجنوب تشترك، مع وجود استثناءات قليلة، في أنها دول اعتادت ترك مواطنيها يتحملون مصيرهم، فالعقد الاجتماعي الذي يوزع المسؤوليات بين الحاكم والمحكوم، لا وجود فعلي له، وهو ما يجعل الأخير لا ينتظر الكثير من الحكومات، التي لا يبدو أنها تكترث لشأنه، ليبدو هو الآخر غير مكترث لما يصدر عنها من أوامر حجر. تلك الأوامر لن تنجح في منعه من الخروج بحثاً عن قوت يومه، ليس لمجرد رغبته في التحدي، ولكن ببساطة لأنه لا يوجد أمامه خيار آخر.
كتب البعض ناصحاً من يرون أنه لا بديل لخروجهم، أن البقاء في البيت وتحمل الجوع أفضل بكثير من تعريض الحياة للخطر. تبدو مثل هذه العبارات حكيمة، لولا أنها تطلق في الغالب من قبل أناس لم يختبروا بعد معنى الجوع.
كاتب سوداني
” كتب البعض ناصحاً من يرون أنه لا بديل لخروجهم، أن البقاء في البيت وتحمل الجوع أفضل بكثير من تعريض الحياة للخطر. تبدو مثل هذه العبارات حكيمة، لولا أنها تطلق في الغالب من قبل أناس لم يختبروا بعد معنى الجوع.” إهـ
الموت جوعاً أصعب من الموت بفيروس! فقد تكون هناك مقاومة بالجسد ضد الفيروس, ولكن لا توجد هناك مقاومة بالجسد ضد الجوع!! ولا حول ولا قوة الا بالله